تركى الحمد يبحث فى اسباب فشل الوحدة العربية (1)

تركي الحمد
مر على العرب حين من الدهر , كانت فيه الوحدة العربية هي الهدف الاسمى لكل التيارات والايديولوجيات ( المخلصة لقضية الامة , أو التي يفترض بها أن تكون مخلصة , لم يكن مهما حينها كيف تتحقق الوحدة , ولا نوعية الوحدة , ومن الخيانة مناقشة , او حتى التساؤل البرئ , حول امكانية الوحدة : هل هي حلم ممكن , ام رومانسية سياسية بعيدة عن معطيات الواقع , المهم هو أن تكون الحدة غاية الغايات , ومنتهى الامل , وفي ظل هذا الاطار العام , من الممكن أن تتعدد التيارات والاتجاهات والايديولوجيات , وكل منها يرى انه هو الاقدر والاكفأ على تحقيق حلم الوحدة الشاملة , والمرشح الأوحد لقيادة دولة الوحدة , والمعبر الامثل عن آمال الجماهير ومصالحها .
وعندما تأتي هذه الحركة , او ذاك الحزب , او هذا الزعيم او ذاك السلطان الى سدة الحكم , في هذا القطر العربي او ذاك, يحاولون أن يحققوا حلم الوحدة وفقا لأيدولوجياتهم من ناحية , وبناء على معطياتهم القطرية الخاصة , بعد ان ( يقومونها ) ( اي يجعلونها الممثل الوحيد للشعار القومي المرفوع ) , فتصبح قطرية هذا القطر هي القومية بذاتها , او ما يجب ان تكون القومية بعينها , وهذه الظاهرة حقيقة ليست قاصرة على الحركات القومية فقط , بل يمكن تعميمها على كل تلك الحركات التي تتجاوز القطرية والوطنية الصرفة في طروحاتها , وخاصة عندما تتجسد هذه الحركات في دولة ملموسة على الارض , فأيام كان الاتحاد السوفياتي دولة قائمة مثلا , كان كل ما هو سوفياتي , او محققا لمصلحة سوفياتية , هو ذاته المحقق للمصلحة الاممية التي تقول بها ايديولوجية الحزب , وما على الاحزاب الشيوعية في كل الدول , الا ان تدافع عن السياسة السوفياتية , لانها السياسة المعبرة عن مصلحة البشرية جمعاء , وما عدا ذلك فهو تحريفية مدانة , وردة مرفوضة , وخيانة تستوجب العقاب , وفي بلد مثل افغانستان أو ايران مثلا ( وخاصة ايام الثورية المتقدة ) , فأن مصلحة الدولة الافغانية , والمتغيرة حسب التيار القابض على زمام الامر , تعني ببساطة مصلحة الاسلام وكل المسلمين بصفة عامة , وما عدا ذلك فهو انحراف , او حتى نوع من الردة التي تخرج القائل بها عن الملة جملة وتفصيلا.
ولكن الواقع في النهاية يفرض نفسه , ولا يأبه بالحتميات أو الفرضيات الايديولوجية , مهما كانت سامية في جوهرها , ونبيلة في تطلعاتها , وتصطدم مصالح الدول , حتى وان كانت تنتمي الى منظومة ثقافية أو قومية أو حتى ايديولوجية واحدة , برغم الشعار القومي او الديني او الايديولوجي المرفوع , فللدولة وحركتها منطق خاص , يأخذ في اعتباره معطيات قد لا تكون واردة في مفردات الايديولوجيا في النهاية تحني رأسها للدولة ومنطقها , وتخلي الطريق لها , ومن هذا المنطلق يمكن ان ندرك جزئيا لماذا فشلت محاولات الوحدة العربية , ولماذا كان الفشل اكبر حين تحولت تلك الحركات الى دول قائمة , فبدلا من أن يكون تحقيق الاستقلال القطري مثلا , مقدمة لألغاء الدولة القطرية جملة وتفصيلا , وفق ما كانت تبشر به هذه الايديولوجية قاصرة او نحو ذلك , وقد يكون في ذلك شئ من الصحة , ولكنه يعود في جوهره الى ان الدولة حين تقوم , وبغض النظر عن ايديولوجيتها المؤسسة , تخضع في النهاية لمنطق مختلف بالكامل عن منطق تلك الايديولوجيا , فللدول مصالح , وهي ليست متطابقة بالضرورة , ومن هنا يأتي التناقض الرئيسي , ولو نظرت الى الحالة العربية – العربية , والصراعات العربية – العربية , وحتى بين المنتمين الى تيار سياسي أو ايديولوجي واحد , تخطت التناغم والانسجام بمراحل .
هذا من ناحية , ومن ناحية اخرى , حتى وان توصلت دولتان الى اتفاق ما حول ضرورة الوحدة , سواء القناعة أيديولوجية معينة , ام لتحقيق مصلحة مشتركة , فإن قرار الوحدة واعلان دولة الوحدة , لايلبث أن ينهار بعد فترة تطول او تقصر , والسؤال هنا هو : لماذا ؟ بكل ايجاز , يمكن القول أن الاجابة تكمن في ان القرار السياسي للوحدة , قد تجاهل ان المسألة تتجاوز مجرد الارادة الطيبة والنية الحسنة , أن الواقع السياسي والاقتصادي والتنظيمي مثلا , للدولتين المتحدتين يفرض نفسه في النهاية , فالقرار السياسي مهم فعلا , بل هو الخطوة الاولى لأي مبادرة أو مشروع تاريخي , ولكنه لايمكن ان يحقق شيئا بذاته اذا كان هو وحده المعتمد في عملية الوحدة , ومن هنا ندرك الاختلاف بين محاولات الوحدة العربية مثلا , او حتى محاولات الوحدة الاقليمية بين بعض الدول العربية ومحاولة الوحدة الاوربية ابتداء من عام 1958 .
كانت الخطوة الاولى في الوحدة الاوربية القائمة اليوم , قرارا سياسيا بضرورة الوحدة الاوربية في النهاية , لامن منطلقات ايديولوجية مطلقة , ولكن من منطلق المصالح المشتركة لكل الدول الراغبة في الوحدة فما دمر اوروبا في السابق , وما ابعدها عن تحقيق الوحدة , برغم كل العوامل المشتركة بين دولها , لم يكونا الا الايديولوجيات وصراعها , نعم , كان هنالك تضارب في مصالح الدول الاوروبية , وخاصة في ايام امبراطوريات الاستعمار , ولكن الايديولوجيات المختلفة أدت الى تاجيج نار ذلك التضارب , وتحول في الخاتمة الى صراع ناب ومخلب , واكلت نار الحروب الجميع في الخامتمة , فالعقلانية السياسية الاوروبية في العلاقات فيما بينها , لم تأت من فراغ , ولم تكن مجرد اختيار حكيم , بقدر ما كانت نتيجة اكتشاف تاريخي من كونها الحل الضروري والمناسب , وفي مقابل الصراع الدموي المتكرر , والذي لا يسفرعنه غالب ومغلوب , بل الجميع فيه مغلوبون .
وبعد ان وصلت اوروبا الى مثل هذه العقلانية في علاقاتها بين اقطارها , قررت ان تتحد .
عندما تظهر كل دولة الى الوجود كدولة , تجسد نفسها اجتماعيا من خلال انظمة وقوانين ونظام سياسي معين , ومحاولة نشر ثقافة سياسية معينة ونظام تنشئة سياسي واجتماعي نابع من الايديولوجيا المتبناة , وبالذات من خلال نظام تربية وتعليم تطل فيه الدولة والنظام السياسي من كل سطر في المقرر الدراسي .
وفوق كل ذلك تحاول كل دولة من تلك الدول القطرية , بالرغم من انها رسميا ضد القطرية , أن (تشرعن) وجودها من خلال البحث في ملف التاريخ القومي او الثقافي المشترك , عن شئ خاص بها , لتعلي من شأنه , وتركز عليه في وسائل اعلامها ومؤسسات التنشئة فيها , موحية بهذا الشكل او ذاك , بانها وتاريخها اهم شئ يمكن الاطلاع عليه في ذلك لملف , والحقيقة ان القضية ليست هنا نقدا لهذا الاتجاه او ذاك , بقدر ماهي مجرد محاولة لكشف تلك الازدواجية القاتلة في السلوك والفكر السياسيين وغير العربيين , اللذين يحاولان دائما الجمع بين النقائض , فتضيع عليهما في النهاية كل تلك النقائض , ولا يحصلان على ما كان يريدان من جمعها .
وعندما يصدر القرار السياسي بالوحدة , وعاجلا وليس آجلا فان تلك المعوقات البسيطة للوحدة تكشف عن نفسها في النهاية فأذا هي تناقضات مدمرة بالكامل : انظمة سياسية مختلفة مهما بدا فيها من تشابه , نظم وقوانين مختلفة , تنشئة سياسية واجتماعية متناقضة , ومرتبطة بالدول القطرية نفسها التي مارست الوحدة , نظم تربية وتعليم خلقت عقولا ذات توجهات وقناعات وايمانات مختلفة , ناهيك بتفصيلات الاقتصاد والمجتمع وغيرهما من تلك الامور , ولذلك فعندما تتشابك الخطوط , وتختلط الاوراق , وتتداخل الاسلاك يكون الطلاق , برغم انه حل بغيض وان كان حلالا , واعتقد انه طوال التاريخ العربي المعاصر , كانت هنا معضلة المحاولات الوحدوية العربية , وما شاكلها وشابهها من محاولات , سواء اكانت محاولات اقليمية أم محاولات متجاوزة للقومية ذاتها .
والعائق الرئيسي الذي ادى الى فشل المحاولات الوحدوية بين دولتين عربيتين أو اكثر ,في طريقه الى الزوال حقيقة , فما فعله الاوروبيون بمبادرة ذاتية ادت الى قيام الكيان الصهيوني الواحد في النهاية , ها هو اليوم يقدم على طبق من ذهب الى العرب , او اي تجمع اقليمي يسعى الى الوحدة والكيان الاكبر , في عالم يضيع فيه الصغير , فهل ينتهز العرب , أو بعضهم هذه الفرصة للبدء في خطوات وحدوية قائمة على اسس سليمة , ويدخلون عالم اليوم بقوة , ام سينتظرون من يوحدهم رغما عنهم , ولمصلحته الخاصة , بينما هم لاهون في مناقشة اضرار العولمة على الهوية , في هوس مبالغ فيه , ومحاربة طواحين الهواء , عفوا اقصد مطاعم الهامبورغر والهوت دوغ , فلا يجدون انفسهم في النهاية الا وقد ضاعوا في زحمة التاريخ .

قبل أن ابدأ الحديث عن أسباب فشل العرب في تكوين إتحاد لابد من أن أتطرق لماذا تتوحَّد أوروبا، المختلفة في القوميات والأَعراق واللّغات، ولايتوحَّد العرب الذين يتكلمون لغة واحدة؟” وعلى الرغم من الأزمة الحالية التي يمر بها الاتحاد الأوروبي لا يزال الرأي العام العربي يعتبر هذا الاتحاد نموذجاً له، من الممكن أن تستنبط منه مبادئ مهمة بالنسبة لتطوّر مشابه في منطقة الشرق الأدنى. حيث تتأثر إستراتيجيات ومصالح البلدان العربية تأثرًا مباشرًا في نجاح أو فشل الاتحاد الأوروبي، كونه مثالاً لاتحاد تكاملي ناجح اقتصاديًا وسياسيًا يتكون من دول مستقلة ،بالنظر إلى التجربة الأوروبية، تتضح – أسباب فشل محاولات الوحدة العربية فالأسباب

كثيرة ولكنني ساذكر جزءً منها وهي كالتالي :-

1- أن الفشل له أسبابه الداخلية في كل دولة عربية‏. من خلال لائحة الدولة ومؤشراتها‏,‏والتي تؤكد أن خطر التفكك والانهيار للدولة العربية يرجع الي عوامل حقيقية داخلية يجب إيجاد حلول لها ليس فقط للانطلاق نحو دعوة وهدف الوحدة العربية للحفاظ أولا علي بقاء ووحدة وكيان كل دولة عربية‏.‏

أما الأسباب الخارجية فهي أن هناك وثائق كثيرة تفضح الدور الأمريكي والدور الإسرائيلي في إفشال الوحدة العربية‏,‏ والآن توجد الكثير من الوثائق والمعلومات التي تؤكد جدية المساعي الأمريكية والإسرائيلية لإفشال الدولة الوطنية العربية وتفكيكها وإعادة تقسيمها‏.

2- تفتيت الوجود العربي رأس الأهداف الصهيونية:وقد التقت خطة الاستعمار والإمبريالية هذه مع الخطة الصهيونية وأهداف الحركة الصهيونية منذ بدايتها، وولد منذ ذلك الحين حلف مشترك يحمل هدفاً مشتركاً أساسياً هو السعي الدائب لتفتيت الوجود العربي بشتى الأساليب، عن طريق استغلال الانقسامات الطائفية والعِرقية، وعن طريق إذكاء المصالح القُطرية الضيقة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، تحقيقاً لاستقرار الدولة اليهودية وضماناً لأمنها.‏

3- دور الاستعمار والإمبريالية:‏يُضاف إلى هذا أن الاستعمار، ومن بعده الإمبريالية، قد جعلا على رأس أهدافهما إضعاف الوجود العربي عن طريق تجزئته وتفتيته، والحيلولة بينه وبين وحدته وتضامنه، ومنع تقدمه بالتالي، وتعطيل أي جهد يقوم به من أجل بناء مشروعه الحضاري المتقدم وكيانه الموحد القادر. ونرى ذلك واضحاً في تصريحات الكثير من أقطاب الدول الاستعمارية منذ أيام ازدهار الاستعمار البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (ويكفي من أجل ذلك أن نرجع إلى تقرير بنرمان الشهير عام (1907) حتى ظهور الإمبريالية الجديدة). كما كان واضحاً في نكوص تلك الدول عن وعودها للعرب بعد الحرب العالمية الأولى (معاهدة سايكس بيكو، مؤتمر الصلح بفرساي، مؤتمر سان ريمو وسواها) ثم في تآمرها الحديث ضد الوحدة العربية المصرية السورية بوجه خاص، وضد أي جهد وحدوي آخر.‏

4- إختلاف التركيبة السياسية :- أن دول العالم العربي مختلفة اختلافًا جوهريًا في تركيبتها، عن التركيبة الديموقراطية لكل دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.فالشرعية الديموقراطية للاتحاد الأوروبي على المستوى القومي والاستقرار السياسي النسبي الموجود لدى أنظمة دول الاتحاد الأعضاء، هي نقيض واضح للأوضاع السائدة في الكثير من الدول العربية.وبينما كانت شعوب دول الاتحاد الأوروبي تعتبر الوحدة التكاملية الأوروبية، مباشرة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، سبيلاً للوصول إلى السلم في الأزمات التي كانت تدور بين الدول، كثيرًا ما كانت تُـحدَّد محاولات الوحدة العربية في الماضي – على نقيض ما جرى في أوروبا.

– فقط في العناية بـ”أمن النظام الحاكم”، وليس بأمن الشعوب والمجتمعات أو النظام ككل.

5- المقَّدمات الفكرية المختلفة، التي دُفِعت على أساسها عمليات الوحدة المعنية إلى الأمام، وعلى عكس ما في عملية الاتحاد والاندماج التكاملي الأوروبية، التي تهدف إلى أن تكون وسيطًا ما بين الاختلافات القومية

والمذهبية والثقافية الموجودة لدى دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء، فإن فكرة الوحدة العربية – ليست وسيلة من أجل التغلُّب على المشاكل والصعوبات الداخلية، التي تعيق نهوض الأمّة العربية، بل الأرجح أن فكرة الوحدة العربية هي وسيلة، من أجل مواجهة التحديات الخارجية، التي يتم تحميلها مسؤولية عجز العرب، وهي كذلك وسيلة، من أجل إعادة إحياء أمجاد العرب الغابرة.إذن، بينما تُـحدّد الوحدة ضمن السياق الأوروبي الهدف، الذي يتحتم من أجل تحقيقه إيجاد آليات لتسوية الأزمات الأوروبية الداخلية، يتم ضمن السياق العربي تحديد وحدة الأمة العربية كشرط لاقامة “اتحاد عربي”.كما لا تبدو الاختلافات والأزمات الداخلية في هذا الإدراك كحال عادية ونتيجة حتمية لتعدّدية اجتماعية، إنما كانحراف عن الوحدة وتهديد لها مقابل التهديدات الخارجية. من وجهة النظر هذه يمكن اعتبار الشروط الجيوسياسية، التي أعاقت في الماضي تحقيق وحدة عربية فعّالة، فقط كمعوقات إضافية. وحتى بالنظر إلى الأزمات العالمية الحالية والمصالح المشتركة الاقتصادية المفترضة ، وعلى الرغم من تعدد المصالح المشتركة، فإن الدولالعربية منفردة تواجه القوى الاقتصادية والسياسية للاتحاد الأوروبي كشريك في المعاهدة من دون مساندة منظمة عربية فوق دولية.

6- أمراض التجزئة:‏ ذلك أن أمراض التجزئة قد استشرت في أرجاء الوطن العربي بعد حقبة طويلة من الانفصال بين أجزائه، ومن غير الجائز تجاهلها أو التقليل من خطرها. ولعل تلك العلل التي ولدتها التجزئة، وما رافقها من قيام كيانات متحجرة ومن ولادة مصالح طبقية وسياسية معطِّلة، هي من أبرز العوامل التي ساعدت على فشل تجارب الوحدة العربية في العقود الأخيرة.

لاسيما أن آثار تجزئة الوطن العربي من قبل الاستعمار الغربي قد انضافت إليها آثار حقبة طويلة من التخلف والجهالة مرت بها الأمة العربية منذ انهيار الدولة العربية وسقوطها في أيدي أخلاط المغول والتتر والأتراك، ومنذ سقوط بغداد بوجه خاص على يد هولاكو عام 1258، وما تلا ذلك من حكم عثماني مغرق في الجهالة ومعادٍ للعروبة، خلَّف في الواقع العربي وفي النفوس والعقول من عِلل التجزئة وأمراضها ومن مظاهر الإقليمية وأعراضها أوبئة كثيرة لا يمكن إغفال دورها في مقاومة العمل الوحدوي الناشئ.

حال الدول العربية مليء بالمتناقضات، فتسيطر الفوضى ويخيم الركود والجمود على الشارع العربي، مع وجود الثروات الهائلة وسرعة عملية التحديث وبناء المدن المتطورة الجديدة وزيادة الاستثمارات. كل هذا يوجد جنبًا إلى جنب مع تفشي الأمية والجهل بين الشعوب العربية، مما ينبئ بحدوث كارثة حقيقة تهدد مستقبل الأمة العربية.

هذه كانت مقدمة للدراسة التي أعدها دافيد أوتاوي – الباحث الكبير بمركز وودرو ويلسون للخبراء الدوليين، والذي كان يعمل صحفيًّا ورئيس مكتب واشنطن بوست في الشرق الأوسط الموجود بالقاهرة في الفترة من 1971-2006 والتي حملت عنوان ” The Arab Tomorrow غد العرب” والمنشورة بدورية “ويسلون Wilson Quarterly” عدد شتاء 2010 الصادرة عن “مركز وودرو ويسلون الدولي للباحثين. بحسب موقع تقرير واشنطن.

 

المبحث الثاني: نماذج من محاولات الوحدة

الوحدة المصرية – السورية:

الاسم الرسمي لهذه الوحدة هو الجمهورية العربية المتحدة.

أعلنت الوحدة في 22 فيفري 1958 بتوقيع ميثاق الجمهورية المتحدة من قبل الرئيسين السوري شكري التوتلي و المصري جمال عبد الناصر، اختير عبد الناصر رئيسا و القاهرة عاصمة للجمهورية الجديدة، و في عام 1960 تم توحيد برلماني البلدين في مجلس الأمة بالقاهرة و ألغيت الوزارات الإقليمية لصالح وزارة واحدة موحدة في القاهرة أيضا. أنهيت الوحدة بانقلاب عسكري في دمشق يوم 28 سبتمبر 1961 و أعلنت سوريا انفصالها عن مصر لتسمى “الجمهورية العربية السورية”، بينما احتفظت مصر باسم “الجمهورية العربية المتحدة” حتى عام 1970 عندما سميت باسمها الحالي جمهورية مصر العربية.

من أهم أسباب الانفصال:

– قدوم عدد كبير من العمال المصريين إلى سوريا مما أدى إلى اختلال التوازن و انتشار البطالة.

– سياسات استبدادية من قبل الحكومة المصرية.

– اشتراط عبد الناصر إلغاء التعددية السياسية لقبول الوحدة، مما أدى إلى انزعاج السوريين.

– قيام مصر بتسريح أخبار الضباط السوريين من الجيش ليحكموا السيطرة على البلاد.

الاتحاد العربي الهاشمي:

كان اتحاد بين المملكة العراقية و المملكة الأردنية عام 1958 و قد تم هذا الاتحاد بين فيصل الثاني ملك العراق و الحسن بن طلال ملك الأردن، و أعلن رسميا عن قيام هذا الاتحاد في 14 فيفري 1958. بين دستور الاتحاد أن الاتحاد يتكون من المملكة العراقية و المملكة الأردنية و عضويته مفتوحة لكل دولة عربية ترغب في الانضمام إليها بالاتفاق مع حكومة الاتحاد. ينص الدستور أن ملك العراق هو رئيس الاتحاد و أن مقر حكومة الاتحاد يكون بصفة دورية 6 أشهر بغداد و 6 أشهر في عمان و في 17 فيفري تمت المصادقة على الاتفاقية من طرف العراق.

استراتيجيا جاء الاتحاد كرد لقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر و سوريا و مخالفة إيديولوجيا للمملكتين. انتهت الوحدة ببيان 14 يوليو مع الإطاحة الملكية في العراق أعلن رئيس الوزراء الجديد عبد الكريم قاسم في 16 يوليو حل الاتحاد واصفا إياه بأنه اتحاد لم يستهدف مصلحة الشعب في القطرين و إنما لتدعيم النظام الملكي الفاسد.

اتحاد الجمهوريات العربية:

بيان و اتفاق وحدة في 17 أفريل 1971 لم يتم تطبيقه عمليا بين 3 دول عربية هي سوريا، مصر، ليبيا في عهد الرؤساء حافظ الأسد، أنور السادات، معمر القدافي، السبب الأساسي لعدم نجاح الاتفاق كما يبرره السوريون و الليبيون هو إقامة كامب ديفيد التي وقعها السادات.

اتحاد الجمهورية العربية الإسلامية:

هو مشروع وحدة بين تونس و ليبيا أعلن عنه في 12 جانفي 1974 بين الرئيس الحبيب بورقيبة و الزعيم الليبي معمر القذافي، جاء إعلان الوحدة بصفة مفاجئة، و كان الاتفاق يقتضي بتول بورقيبة منصب الرئيس و القذافي منصب نائب الرئيس، كان مقررا أن تتم المصادقة على الاتفاق بعد إقامة استفتاء في البلدين، لكن أمام عدم ورود نص في الدستور التونسي حول إجراء استفتاء تم تأجيله. وقع في النهاية إبطال الاتفاق بعد رفضه من قبل عدد من السياسيين التونسيين، فعدل بورقيبة عنه، و أدى إبطال الاتفاق إلى توتر كبير في العلاقة بين بورقيبة و القذافي.

اتحاد اليمن:

كان دولتين يعرفان باسم الجمهورية العربية اليمنية في الشمال و جمهورية اليمن الديمقراطية النهضة في الجنوب و في عام 1990 توحد الجمهوريتان تحت اسم الجمهورية اليمنية، لكن في عام 1994 نشئت حرب بين طرفي الوحدة، انتهت الحرب بانتصار القوات المؤيدة للرئيس و استمرار الوحدة بين شطري اليمن.

  

الفصل الثالث: تقييم الوحدة العربية

المبحث الأول: مقارنة بين محاولات الوحدة العربية و الوحدة الأوروبية

لقد بدأت الوحدة الأوروبية مشروعا فكريا في أذهان مفكرين وحكماء وفلاسفة وفقهاء ورجال قانون ومصلحين اجتماعيين قبل أن تتحول إلى مشروع سياسي تدعمه المؤسسات السياسية والاقتصادية، ويتبلور تدريجيا عبر سلسلة من الرؤى والتطبيقات والصراعات.

المقارنة بين التجربتين العربية والأوروبية  تقتضي أن نفترض أن البلدان العربية مقتنعة تمام الاقتناع بضرورة التخلي عن النهج القومي الذي سيطر على التفكير العربي، والذي كان يصر دائما على حق الأمة العربية المجزأة في قيام دولتها الموحدة في قفزة فورية عملاقة تكتسح الحواجز المصطنعة، وأن يقرر العرب بدلا من ذلك اقتفاء أثر التجربة الأوروبية، وتبني نهج وظيفي لبناء وحدة تدريجية على مراحل، تبدأ بتكامل اقتصادي وتنتهي بشكل من أشكال الوحدة السياسية. فهل تستطيع البلدان العربية -بأوضاعها الحالية- أن تقوم بعملية تكاملية ناجحة تعتمد على النهج الوظيفي بمجرد أن تقرر ذلك؟ الجواب هو “لا” بصورة قاطعة وفورية، لسبب بسيط هو أن الشروط اللازمة لتطبيق فعال للنهج الوظيفي في عملية تكاملية ناجحة ليست متوافرة في الواقع العربي.

وقد تمكنت تجربة التكامل الأوروبي من تطبيق النهج الوظيفي بنجاح، لسبب بسيط هو أنها تمكنت من حل ثلاث معضلات أساسية: أولاها تحييد الخلافات السياسية وعزل تأثيراتها السلبية المحتملة في العملية التكاملية، وثانيتها بناء مؤسسات فعالة قادرة على إدارة العملية التكاملية، وآخرها ضمان تقدم العملية التكاملية إلى الأمام واستمرارها والحيلولة دون التفافها حول نفسها.

ومن دون توفر هذه الشروط الثلاثة يستحيل على أي تجربة تكاملية أن تنجح مهما حسنت النيات أو توفرت الإرادة والتصميم. ولأن هذه الشروط غير متوافرة في الواقع العربي بأوضاعه الحالية فإن العمل على توفير متطلباتها يعد أحد أهم الدروس المستفادة من الخبرة الأوروبية.

تظهر المقارنة بين النظامين الإقليميين الأوروبي والعربي وجود عوامل تشابه بينهما، فكلاهما ينقسم إلى دول ذات سيادة تتباين في أحجامها وقوتها وثرواتها، وترتبط فيما بينها بروابط مشتركة، ولكن من طبيعة مختلفة تدفعها للتعاون فيما بينها.

فالدول العربية ترتبط فيما بينها بروابط اللغة والتاريخ والثقافة، أما الدول الأوروبية فتتشابه نظمها السياسية إلى حد كبير، فتشترك فيما بينها بروابط المصلحة أساسا، وتظلها روابط دينية وحضارية عامة، مع أن تجربتي المنطقتين انطلقتا في وقت واحد تقريبا بعد الحرب العالمية الثانية.

ولكن المقارنة الأكثر عمقا تظهر اختلافات عدة بينهما من حيث الجوهر والمضمون، فمن الواضح أن لتجربة التكامل الأوروبي والإقليمي سياقا تاريخيا مختلفا تماما عن السياق التاريخي الذي نشأت فيه التجربة العربية، وأن كلا منهما نشأت وترعرعت في بيئة عالمية وإقليمية مختلفة تماما عن البيئة التي نشأت فيها الأخرى، وكان لهذه العوامل كلها تأثير واضح في الخصائص الذاتية لكل من التجربتين.

إن السياق التاريخي بالنسبة للتجربة الأوروبية هو أنها تجربة تكامل بين دول قومية متبلورة ومكتملة النضج لكل منها خصوصيتها وهويتها الثقافية والقومية، وتجربة للتكامل بين أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان والمواطن، وأخيرا تجربة لتحقيق الوحدة السياسية على مراحل.

أما التجربة العربية فينظر إليها كتجربة للتكامل بين أقطار تبدو مصطنعة، تعكس واقع التجزئة المطلوب هدمه وتغييره وبناء دولة الوحدة على أنقاضه، ثم كتجربة للتكامل العربي بين دول غير مكتملة النمو والنضج وتفتقر بالتالي إلى مؤسسات سياسية قوية ومستقرة، وأخيرا كتجربة نشأت في ظل ارتباط العديد من الدول العربية بعلاقات وترتيبات خاصة مع قوى خارجية.

وفي السياق الدولي فإن التحولات التي طرأت على النظام الدولي، بعد سقوط وانهيار كل من المعسكر الشرقي والاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، غيرت من سياق وطبيعة علاقة الجماعة الأوروبية بالقوى الدولية الكبرى الأخرى، أي الولايات المتحدة التي بدأت تتطلع إلى الهيمنة المنفردة على النظام الدولي، لكن هذا لا يعني أن العلاقات الأميركية الأوروبية تعرضت إلى مرحلة الصدام المباشر.

أما بالنسبة للتجربة العربية وفي ما يتعلق بالعامل الخارجي في حركة الوحدة والتكامل فلم تتوافر للتجربة العربية في أي مرحلة من مراحل تطورها بيئة دولية حاضنة لقضية الوحدة أو ملائمة لنموها، فموازين القوى العالمية، وطبيعة التحالفات الدولية الناجمة عنها لعبت دورا سلبيا في التجارب الوحدوية العربية.

وعلى المستوى الإقليمي بدأت التجربة الأوروبية بأحد الأنساق الفرعية لنظام إقليمي أوسع، يجسده مجلس أوروبا إلى جانب العديد من الأنساق أو النظم الفرعية الأخرى للنظام الإقليمي الأوروبي فشملت عددا من المنظمات الأوروبية المتخصصة التي تتسع أو تضيق العضوية فيها حسب الأحوال.

أما الاتحاد الأوروبي فليس مجرد واحد من هذه الأنساق الفرعية التي تشكل في مجموعها مجمل النظام الإقليمي الأوروبي، فهو المنظمة الوحيدة التي تجسد العملية التكاملية والاندماجية في أوروبا التي قبلت الدول الأعضاء بموجبها نقل جزء يتزايد باطراد من اختصاصاتها وصلاحياتها إلى مؤسسات مشتركة بغية الوصول إلى هدف نهائي طموح، هو تحقيق وحدة أوروبا السياسية باستخدام منهج وظيفي متدرج يبدأ بالاقتصاد وينتهي بالسياسة.

أما عن التجربة العربية إقليميا فقد تميزت بعلاقات بينية تمتاز بالتوتر وعدم الاستقرار بسبب مشكلات الحدود واختلاف النظم و الأيدولوجيات السياسية وتباين موازين القوى، بالإضافة إلى طابع الصراع الذي اتسمت به العلاقات العربية مع الدول المجاورة كإسرائيل وتركيا وإيران، لذلك فقد كان من الصعب على الوطن العربي عزل قضايا السياسة والأمن عن قضايا الاقتصاد والتجارة على النحو الذي تم في أوروبا.

التجربة العربية لم تتوفر لها بيئة دولية حاضنة لقضية الوحدة، بل إن موازين القوى العالمية وطبيعة التحالفات الناجمة عنها لعبت دورا سلبيا في التجارب الوحدوية العربية

مدى قابلية النهج الأوروبي للتطبيق في الواقع العربي

نشأ كل من النظام الأوروبي و العربي في سياقات تاريخية و دولية مختلفة، و بالتالي فقد كان من الطبيعي أن يفرز كل منهما مناهج و آليات تكاملية مختلفة مع هذه السياقات، و لكون التجربة االأوروبية في التكامل هي الأنجع و الأكثر تحقيقا للإنجازات الملموسة على الأرض، فقد أصبح هناك ميل لمدح التجربة الأوروبية و الإشادة بها في الكتابات العربية، و في المقابل هناك انتقادات للتجربة العربية.

  و عند المقارنة بين التجربتين العربية و الأوروبية نلاحظ أن اهمال التجربة العربية للمنهج الوظيفي هو السبب في تعثرها، كما نثير نقطة أخرى هي مدى توافر التربة الصالحة في إنجاح هذه التجربة على المستوى العربي لتحقيق نفس النتيجة التي حققتها أوروبا.

و لئن كان للعوامل الخارجية دور في ذلك سواء على مستوى الدول العربية أو الأوروبية، فإن الدور الأساسي في إنجاح التجربة يبقى العوامل الذاتية أو الداخلية، و بالتالي فإن إنجاح أي تجربة تكاملية مرهون بقدرة القائمين عليها على فهم و تشخيص عوامل القوة و الضعف الفعلية و الكامنة، و محاولة الاستفادة من عوامل القوة إلى أقصى حد ممكن، و التغلب في الوقت نفسه على عوامل الضعف لصالح دفع العملية التكاملية، و فهم و تشخيص طبيعة الفرص و المحاذير التي قد تتيحها أو تفرضها موازين القوى العالمية و الإقليمية المحيطة بالتجربة التكاملية، و اختيار أنسب الوسائل لتحقيق أهدافها المرجوة بما يتلاءم و هذه العوامل و الموازين.

لكن الواقع العربي بأوضاعه الحالية لا يوحي بنجاح هذه التجربة بمثل نجاحها في أوروبا ما لم تتوافر الشروط ذاتها التي نجحت من خلالها و بها التجربة الأوروبية.

   هناك شروط و مؤهلات يجب امتلاكها لنجاح تطبيق التجربة الأوروبية عربيا مثل تحديد الخلافات السياسية و بناء مؤسسات فعالة ثم ترتيب ضمانات لاستمرارية الوحدة و بقائها.

   إن القضية الفلسطينية و الصراع العربي الإسرائيلي يلقي بظلاله على العمل العربي المشترك، إذ أن إسرائيل كيان يهدد الدول العربية، في نفس الوقت الذي كانت فيه إدارة الصراع مع إسرائيل سببا في مزيد من تعقيد الوضع و التباعد و الاختلاف و الفشل.

و من أهم ضمانات نجاح العمل و استمراره أيضا إجراء إصلاحات سياسية واسعة النطاق في الوطن العربي تستهدف إقامة نظم مؤسسية و ديمقراطية فاعلة في جميع البلدان العربية.

المبحث الثاني: الدروس المستفادة من التجارب الوحدوية العربية

– يجب إعادة النظر في التجارب التعاونية الإقليمية خاصة من الناحية الهيكلية.

– تحييد البعد السياسي خاصة الخلافي منه، و تسخير التوافق و التقارب السياسي لصالح الميادين الاقتصادية و الاجتماعية الأخرى.

– حل الخلافات بالوسائل السلمية، و تغليب مصالح الدولة على مصالح النظام أو الحاكم.

– الاستفادة من التجارب التعاونية و الوحدوية الأخرى في العالم، و لعل تجربة الاتحاد الأوروبي قدوة إذ رغم الاختلافات العرقية و الدينية و الحروب التاريخية، فإنهم استطاعوا تجاوز كل المعوقات و الوصول إلى حالة وحدوية رائدة.

 الأُمة والقومية:‏

 1- مهمة الحركة القومية أن تحول الأُمة الموحدة من حال الوجود بالقوة، على حد تعبير أرسطو، إلى حال الوجود بالفعل. والأُمة العربية، بحكم مقومات الوحدة الموضوعية الراسخة فيها، موجودة بالفعل، وقائمة هناك في أعماق المشاعر لدى أبناء الشعب العربي، ومتجلية في حتمية التكامل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تفرضه بنية الوطن العربي وطبيعته وحاجاته. وليس من جديد القول أن نؤكد حقيقة بدت بدهية، وهي أنه ما اجتمع لأُمة مثل ما اجتمع للأُمة العربية من مقومات الوحدة. سوى أن هذا الوجود الموحد بالقوة، بحكم تلك المقومات وبحكم حاجات مستقبل الوطن العربي كله ومستلزمات تقدم كل قُطر من أقطاره، لا ينقلب إلى وجود بالفعل سهواً رهواً أو بعصا ساحر أو بقرار سياسي عاجل.‏

 أمراض التجزئة:‏

 2- ذلك أن أمراض التجزئة قد استشرت في أرجاء الوطن العربي بعد حقبة طويلة من الانفصال بين أجزائه، ومن غير الجائز تجاهلها أو التقليل من خطرها. ولعل تلك العلل التي ولدتها التجزئة، وما رافقها من قيام كيانات متحجرة ومن ولادة مصالح طبقية وسياسية معطِّلة، هي من أبرز العوامل التي ساعدت على فشل تجارب الوحدة العربية في العقود الأخيرة. لاسيما أن آثار تجزئة الوطن العربي من قبل الاستعمار الغربي قد انضافت إليها آثار حقبة طويلة من التخلف والجهالة مرت بها الأمة العربية منذ انهيار الدولة العربية وسقوطها في أيدي أخلاط المغول والتتر والأتراك، ومنذ سقوط بغداد بوجه خاص على يد هولاكو عام 1258، وما تلا ذلك من حكم عثماني مغرق في الجهالة ومعادٍ للعروبة، خلَّف في الواقع العربي وفي النفوس والعقول من عِلل التجزئة وأمراضها ومن مظاهر الإقليمية وأعراضها أوبئة كثيرة لا يمكن إغفال دورها في مقاومة العمل الوحدوي الناشئ.‏

 دور الاستعمار والإمبريالية:‏

 3- يُضاف إلى هذا أن الاستعمار، ومن بعده الإمبريالية، قد جعلا على رأس أهدافهما إضعاف الوجود العربي عن طريق تجزئته وتفتيته، والحيلولة بينه وبين وحدته وتضامنه، ومنع تقدمه بالتالي، وتعطيل أي جهد يقوم به من أجل بناء مشروعه الحضاري المتقدم وكيانه الموحد القادر. ونرى ذلك واضحاً في تصريحات الكثير من أقطاب الدول الاستعمارية منذ أيام ازدهار الاستعمار البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (ويكفي من أجل ذلك أن نرجع إلى تقرير بنرمان الشهير عام (1907) حتى ظهور الإمبريالية الجديدة). كما كان واضحاً في نكوص تلك الدول عن وعودها للعرب بعد الحرب العالمية الأولى (معاهدة سايكس بيكو، مؤتمر الصلح بفرساي، مؤتمر سان ريمو وسواها) ثم في تآمرها الحديث ضد الوحدة العربية المصرية السورية بوجه خاص، وضد أي جهد وحدوي آخر.‏

 تفتيت الوجود العربي رأس الأهداف الصهيونية:‏

 4- وقد التقت خطة الاستعمار والإمبريالية هذه مع الخطة الصهيونية وأهداف الحركة الصهيونية منذ بدايتها، وولد منذ ذلك الحين حلف مشترك يحمل هدفاً مشتركاً أساسياً هو السعي الدائب لتفتيت الوجود العربي بشتى الأساليب، عن طريق استغلال الانقسامات الطائفية والعِرقية، وعن طريق إذكاء المصالح القُطرية الضيقة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، تحقيقاً لاستقرار الدولة اليهودية وضماناً لأمنها.‏

 دور الحركة القومية العربية:‏

 5- ومن هنا كان تحويل الوجود العربي الموحد بالقوة إلى وجود عربي موحد بالفعل، أمراً يحتاج إلى نضال مستمر على شتى المستويات، يستهدف المقاومة العلمية والعملية المنظمة للعوامل التي تبقي على التجزئة وتذكيها، وعلى رأسها العوامل التي أشرنا إليها (أمراض التجزئة، الاستعمار، الصهيونية وإسرائيل). ومعنى هذا أن الحركة القومية لا تجد أمامها طريقاً معبَّدة ميسَّرة، بل تجد أمامها طريقاً مليئة بالمصاعب والأشواك. والمقتل الذي تتعرض لـه الحركة القومية العربية هو أن تحسب أن توحيد الأمة العربية ينبغي أن يأتي عفو الخاطر، كالثمرة التي تتساقط من الشجرة بعد نضجها، أو أن تظن أن القرارات السياسية وحدها، مهما يكن شاؤها، قادرة على توليد ذلك الوجود الموحد. فللظواهر الاجتماعية قوانينها، وهي لا تُغيَّر بجرة قلم، أو بإرادة حاكم. ولابد للتأثير في القوانين التي تحكم أية ظاهرة اجتماعية من تشكيل الظروف تشكيلاً جديداً قادراً على تغيير تلك القوانين لكي نستبدل بها قوانين جديدة. والعوامل التي خلقت التجزئة في الوطن العربي، والتي ما تزال تعمل على ترسيخها، قوانين صارمة، لابد من تحليلها وإدراكها إدراكاً علمياً عميقاً من أجل وضع خطة علمية للتغلب عليها، ولابد لتعطيلها من نضال يومي مستمر ومتصل على جميع الأصعدة الفكرية والسياسية وسواها.‏

 الجمع بين العقل والانفعال أبرز مهمات الحركة القومية:‏

 6- وبتعبير آخر، مهمة النظرية القومية والحركة القومية أن تضيف إلى المشاعر الانفعالية والعاطفية المستقرة في نفوس الكثرة الكاثرة من أبناء الشعب العربي والتي تشعرهم بوحدة وجودهم ومصيرهم، وعياً عقلياً علمياً محركاً من جانب، ونضالاً فكرياً سياسياً مستمراً من جانب آخر. أما الوعي العقلي العلمي فسلاحه بالدرجة الأولى أفكار وأنظار ودراسات تظهر عمق جذور الوحدة بين أبناء الشعب العربي، وتكشف عن تكامل الوجود العربي ووحدة مصيره، وتضع بوجه خاص أمام أبناء الشعب العربي الصورتين الممكنتين لذلك الوجود (أو المشهدين الممكنين): صورة الوجود العربي في حال استمرار التجزئة (وهي صورة مظلمة قاتمة تكاد تكون عين الصورة التي يريدها الاستعمار وتريدها إسرائيل)، وصورة الوجود العربي في حال التكامل والتضامن والوحدة (وهي وحدها القادرة على التغلب على الطريق المسدود الذي كادت تصل إليه الدول القُطرية في البلاد العربية في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية وسواها، فضلاً عن شأنها في بناء الكيان الحضاري العربي الخصيب في عصر الكتل الكبرى). ومثل هذا الجهد العقلي يضطلع بجانب هام منه “مركز دراسات الوحدة العربية” ومقره بيروت، وقد كانت أبرز صُوره تلك الدراسات التي أعدها حول “استشراف مستقبل الوطن العربي”. وهو جهد ينبغي أن تغذيه العقول العربية جميعها بعطائها تغذية واعية لأغراضها، لا تكتفي بتقديم الدراسات العلمية حول أهمية تكامل الوجود العربي في شتى الميادين، بل تتريث بوجه خاص عندما تحمله الدراسات من معانٍ تشير إلى حتمية الوحدة، وتقوى بالتالي على أن تجعل من الأفكار والأنظار قوى محركة فاعلة.‏

 وأما النضال الفكري والسياسي، فينبغي أن ينطلق من ذلك الوعي العقلي والعلمي، المحمَّل بالشحنة الانفعالية المشرئبة إلى الوحدة، وبالإيمان بأهميتها ودورها الحاسم، من أجل تعبئة الجماهير العريضة تعبئة منظمة، بحيث تصبح قوة ضاغطة ومحركة، وبحيث تقوى بوجه خاص على الكشف عن القوى المعادية للوحدة بشتى أشكالها، من أجل تعطيلها وإبطال سعيها.‏

 المعرفة قوة:‏

 7- وهذه الطاقة التي تولد على هذا النحو من شرارة اللقاء بين الوعي والانفعال، ينبغي أن يهديها عمل علمي رصين، يرصد العوائق التي تقف في وجه الوحدة، ويحلل أسبابها ومنطلقاتها، ويعمل على مغالبتها مغالبة علمية منهجية. ولئن كان الكثير من معوقات الوحدة يتخفى ويتراجع أمام حميا العمل القومي الجاد والمؤمن والواعي. فإن من الوهم أن نتخيل أن تنهار هذه المعوقات انهياراً حاسماً إذا نحن لم نقتلع جذورها عن طريق فهم عوامل تكوّنها وولادتها، ودوافع نموها وانتشارها، فهماً يُمكِّننا من إبطال طاقتها الحركية المولدَّة. وهذا يستلزم تحليلاً علمياً موضوعياً رصيناً ودقيقاً للواقع العربي، في شتى مجالاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بل في مجالاته الإنسانية والنفسية، قوامه البحث عن الخيوط الرائدة التي تمسك بهذا الواقع المجزأ المتردي، ومنطلقه التغلب على الأشياء عن طريق الخضوع لها، على حد تعبير “فرانسيس بيكون”، أي عن طريق معرفتها وإدراك قوانينها….‏

 ومثل هذا التحليل العلمي الرصين ليس بالأمر اليسير. إنه في حاجة إلى تضافر العقول العربية من أجل تحليل الواقع العربي وإدراك جذوره التاريخية، ومن أجل البحث بحثاً توليدياً تكوينياً في نشأة المشكلات التي يواجهها والعقبات التي يشكو منها. وذلك كله في سبيل التأثير الفعَّال المجدي في مسيرة واقع عربي لا نعرفه حق المعرفة حتى اليوم.‏

لا بد من اقتلاع عوامل اليأس من نفوس الجماهير:‏

 8- ولعل أبرز وسائل النضال المتصل من أجل بناء الوحدة، اقتلاع عوامل اليأس من نفوس الجماهير العربية. ويتم ذلك بوجه خاص عن طريق التأكيد على أن العمل من أجل الوحدة عمل طويل النفس، عمل يغالب عوامل موضوعية قائمة، وأن فشل تجارب الوحدة العربية لا يعني فشل مبدأ الوحدة، بل يؤكد أهمية العمل العقلاني الطويل في سبيل التغلب على العوامل التي أدت إلى فشل التجارب السابقة، وقد تؤدي، إن استمرت، إلى فشل التجارب اللاحقة. والتاريخ لا يعرف أمة لم تواجه الفشل تلو الفشل في بناء كيانها المرجو، ولكنه يعرف أمماً كثيرة أدركت عوامل الفشل وتغلبت عليها في النهاية. وليست دروس الوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية والوحدة السلافية بل الوحدة الأمير كية (الولايات المتحدة) ببعيدة عن أذهاننا. بل لعل من واجبنا أن نعي وعياً أعمق دروس قيام الكيان الإسرائيلي بعد خمسين عاماً من ولادة الحركة الصهيونية على يد “هرتزل”.‏

 مضمون الوحدة يولِّد شكلها:‏

 9- أما الشكل الذي يمكن أن تأخذه الوحدة فهو الشكل الذي يولد من خلال تحرك الحركة القومية العربية ونضالها ونموها، والذي يفرضه الوجود العربي نفسه بعد أن يتحرر من عوامل التجزئة ويعي ذاته وأهدافه. ورغم ما قيل ويقال عن أهمية الشكل في نجاح الوحدة، ورغم الفكرة التي ترى أن أحد أسباب فشل تجربة الجمهورية العربية المتحدة ركونها منذ البداية إلى الوحدة الاندماجية بدلاً من الوحدة الاتحادية أو سواها، يظل من الصحيح أن الشكل وحده لا يحل المسألة، وأن حلها لا يكون إلاّ بالنضال المستمر من أجل التغلب على عوامل التجزئة، وأن هذا النضال هو وحده الذي يمنح للشكل مضمونه السليم القادر على الحياة والبقاء، بل هو الذي يولد ذلك الشكل.‏

 على أنه يظل من الصحيح – لا سيما في عصرنا – أن اللامركزية الإدارية أقدر دوماًُ على تحقيق أوسع مشاركة في الحكم من قبل المناطق المختلفة والفئات الاجتماعية المتنوعة، وأن منح المزيد من الصلاحيات للسلطات المحلية، على اختلاف مستوياتها الإدارية، يزيد في تلاحم الأمة كما يزيد في فعالية الحكم جملة وفي مردوده وعطائه، فضلاً عن آثارها الهامة في إشاعة الديمقراطية الحقة، عن طريق المشاركة الفعلية في الحكم. وفي كل الأحوال، لا بد من العمل الفكري والسياسي والنضال العملي الموصول من أجل بناء الوحدة. من خلال الثغرات التي تفسح المجال لمشاعر الغبن أو منازع التسلُّط أو آفات انعدام العدالة بين أجزاء الدولة الواحدة أياً كان شكلها.‏

 وما جرى قبل قيام الدولة الاتحادية في أمريكا يقدم لنا درساً ثميناً في هذا المجال، ويبين كيف عمل المنادون بالوحدة بين الدول الثلاث عشرة إذ ذاك على تأكيد سلطات كل ولاية في كثير من المجالات، وعلى توفير الضمانات اللازمة للولايات الكبيرة والصغيرة على حد سواء، الأمر الذي غدا من أهم مقومات دستور الولايات المتحدة (كما يظهر بشكل خاص في التمثيل النسبي في الكونغرس تبعاً لعدد السكان في مقابل التمثيل المتساوي في مجلس الشيوخ). وفي كتاب “الدولة الاتحادية” “لهاملتون” و “ماديسون” و”جي” (الذي ترجمه الدكتور جمال محمد إلى اللغة العربية منذ عقود عديدة) عرض عامر بالدروس ومثير للاهتمام لصنيع دعاة الوحدة إذ ذاك، وحرصهم بوجه خاص على استخدام لغة المنطق والعقل والواقع في تصورهم للدولة الاتحادية الموعودة.‏

 مبدأ الوحدة لم يفشل:‏

 10- وجملة القول أن تجربة الدولة القطرية تجربة أثبتت فشلها في شتى الميادين، ولكنها باقية بسبب العوامل التي ولدت التجزئة. وإن مبدأ الوحدة العربية لم يفشل، ولكن الذي فشل هو العمل للوحدة دون قيام الوعي الفكري والسياسي اللازم لقيامها، ودون الاضطلاع بالنضال الجماهيري الذي يعمق الإيمان بها، ويعبىء النفوس من أجلها. وما نراه اليوم من تردي الواقع العربي في شتى المجالات ليس إلا برهاناً بالخلف، كما يقول المناطقة، على ما يؤول إليه الوجود العربي حين ينحسر المد القومي ويضعف الوعي الوحدوي ويخمد النضال الجماهيري.‏

 ترابط عناصر النضال من أجل الوحدة:‏

 11- ولا حاجة إلى القول أن التوعية الوحدوية والنضال الوحدوي ضد عوامل التجزئة التي أشرنا إليها يكشفان على نحو واضح عن الصلة العميقة المتبادلة بين النضال ضد الإمبريالية وإسرائيل، والنضال ضد العلل والاتجاهات الفكرية والنفسية التي خلفتها التجزئة، والنضال ضد أصحاب المصلحة في بقاء التجزئة على اختلاف صورهم وانتماءاتهم. على أنهما يكشفان، أولاً وقبل كل شيء، عن أهمية تحرير العمل الفكري والجهد الشعبي والجماهيري من القيود التي تفرض عليهما.‏

 إطلالة على المستقبل:‏

 12- وأخيراً، إن التجربة المرة التي تمر بها الأقطار العربية كلها، رغم التفاوت النسبي الضئيل فيما بينها، سواء في حياتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو التربوية أو السياسية أو سواها، لا بد أن تكون محملة بالوعود، ولا بد أن تولد نقيضها من داخلها، لا سيما أن الواقع العربي المتردي القائم يرفضه ويلفظه أبناء الأمة العربية جميعهم، سواء كانوا حكاماً أو محكومين. ومع ذلك فالخروج من المأزق الذي أوصلتنا إليه حال التجزئة والتشتت والتنافر، ليس بالأمر اليسير، لا سيما على المدى القريب. فالمستقبل العربي القريب غداً مرتهناً إلى حد كبير، في شتى الميادين، بسبب السياسات التي تبعت في العقود الأخيرة، كما تشير الاسقاطات المختلفة، من اقتصادية واجتماعية وتربوية وسواها. والبلاد العربية في حاجة إلى بذل الجهد أضعافاً مضاعفة إذا هي أرادت أن تحدث تغييراً ذا شأن في النتائج التي يفرزها امتداد السياسات الماضية في شتى الميادين. وتحويل الانحدار القومي، وبوجه خاص ذلك الانحدار الذي عرفته العقود الأخيرة، بحيث يبدأ في السير صعداً في الاتجاه المعاكس، يحتاج إلى جهد هائل من التوعية الفكرية والسياسية ومن النضال العملي المنظم. غير أن المهمة ممكنة، والمنعطف آتِ، ما في ذلك شك، ما دامت الأمة العربية رافضة لمصيرها الحالي، بمنطق القلب والعقل والمصلحة والأمن والطموح القومي، شريطة أن يخدم رفضها هذا فكر سياسي قومي عميق واع يولد نضالاً شعبياً مدركاً لأهدافه مؤمناً بها. وهذا كله يستلزم، كما قلنا ونقول، تحرير الفكر العربي من عقاله، وتحرير الجماهير العربية من القيود التي ترزح تحتها، وشق الطريق واسعاً أمام الديمقراطية الولود والحرية الخصيب.‏

من الغريب والمؤسف حقا أن يكون المؤتمر القومي العربي ينعقد ولا نكاد نسمع عنه شيئا إلا ما تتناقله بعض وسائل الإعلام المختلفة المشارب. فالحاصل أن مثل هذه المؤتمرات يجب أن تنال حقها من الإعلام والتعريف بها خاصة على المستوى الشعبي في كل أقطار العالم العربي عامة. لكن الواقع يفند هذه المزاعم ويجعلها في طي النسيان. ولسنا هنا نبارك قرارات هذا المؤتمر أو نساند ونوافق كل الأقطاب المشاركة فيه، ولكننا برؤية شفافة نطالب بتوضيح الأمر ، وجعل مسألة الانعقاد وأسبابه وأطرافه في متناول معرفة الجميع، حتى تكون الرؤية شاملة وواضحة العيان.

إن مسألة وجود مؤتمر قومي للعرب، ومسألة قدرته على البقاء في ظل الضغوطات والسياسات الممنهجة التي حيكت وتحاك ضد أي اتحاد قومي للعرب منذ عقود عديدة خلت لهي شيء إيجابي يتطلب الوقوف عنده لحظات طويلة لنقده ، وبحث أسرار هذا البقاء المستحيل ، وإنه لشيء عظيم أن يكون هناك مؤتمر يجمع أغلب الحساسيات العربية بين أردافه رغم الاختلافات والخلافات بين العديد من أقطاب هذا المؤتمر ، وبالتالي فإننا جد متفائلين بكل العمل الذي يدفع نحو وحدة عربية تحت مقومات سياسية واقتصادية ومن هنا ندافع عن توجهنا الذي يدفع باستحضار المقومات السياسية والاقتصادية دون العاطفية والولائية التي قضت على أغلب المبادرات القومية التي تبناها زعماء ومفكرون ونخب عربية من قبل.

إن الوحدة العربية التي تدعو إلى الانضمام في كيان واحد على أساس عاطفي وولائي لا يمكنها أن تجد طريقها نحو التحقق في ظل التطورات الداخلية في كل قطر عربي على حدة، وفي ظل الأحداث الخارجية وخاصة منها القطرية ، فإسرائيل مثلا ، الدولة الكيان المزروع وسط المنطقة العربية والتي تشطر العالم العربي إلى شطرين تمكنت بطريقة أو بأخرى وبمساندة من بعض القوى الفاعلة والمؤثرة في العالم من خلخلة كل نظام عربي تمكن من الانفلات من الضغط الإمبريالي والصهيوني. تارة بتأليب العالم ضده كما حدث لليبيا والعراق وسوريا ولبنان … وتارة بالمواجهة الثنائية معه عسكريا أو سياسيا كما حصل مع سوريا ومصر ولبنان أيضا، ومن هنا يمكننا أن نستنتج استنتاجا واضحا، وهو يتجلى في مقدرة الدول العربية على بناء تكتل اقتصادي وسياسي يواجه أعتد التكتلات التي تقوم في العالم بين الفينة والأخرى.

وقد أثارتني مقولة لأحد رؤساء الدول الأمريكية الجنوبية في إبان تأسيس مشروعهم الوحدوي بزعامة كوبا وفنزويلا والشيلي … وهو يطالب العرب وخاصة ، قادتهم ببذل الجهد للدخول في غمار تجربة الوحدة ، ولكن هؤلاء الآخرين تجاهلوا كل نصيحة كيفما كانت نوعها وكيفما كان الناطق بها.

لقد سبق التأكيد في مقام سابق على الأهمية الحاسمة لكل تجمع يجمع كل الأقطاب والتوجهات العربية المكونة للنسيج الاقتصادي والسياسي والثقافي العربي، في نجاح انطلاقة الوحدة العربية وتواصلها. ولكن المطروح في هذه اللحظة بالذات هو التفعيل البطيء والضعيف في هذه الانطلاقة، إضافة إلى الخوف الواضح الذي يلتحف به أغلبية العرب بكل نخبهم، من فشل أي مشروع وحدوي انطلاقا من مسلمة الفشل الذريع الذي لحق مبادرات عربية سابقة في التاريخ ، والتي كانت كل البوادر الأولية تدل على نجاحها، لكن وقع ما لم يكن في الحسبان ، فانتهت كل هذه المبادرات إلى الفناء في فترة قصيرة لم تخطر على بال أحد ، وهذا ما يؤكد الخوف البين لدى البعض من الفشل المحتوم.

أسباب الفشل العربي :
لا يمكننا أن نحدد في عجالة ، كل الأسباب التي أدت إلى فشل
المشروع القومي العربي منذ أول انطلاقة عرفها ، والتي بدأت بتأسيس حزب البعث العربي السوري من طرف ميشيل عفلق السياسي الكبير الذي أبان في نفس الفترة عن حنكة سياسية رائدة مازال الكثير من مفكرينا وباحثينا العرب يستشهدون بنظرياته وكتاباته ومواقفه العظيمة .

ومن هذا المنطلق سوف نتطرق بتفصيل لكل سبب كان وراء هذا الفشل الذريع لإقامة وحدة عربية ، وترك للكثير من أعداء الأمة العربية الفرصة لكي يصولوا ويجولوا في محتويات كتاباتهم وسياساتهم لأجل السخرية ونعت العرب بكل أنواع الأوصاف القدحية والناقصة من قيمتهم ، والتي كانوا في يوم من الأيام ينعتون بأعظم وأفضل النعوت

وتتجلى أسباب الفشل العربي في تأسيس وحدة قومية فيما يلي :
أ- الانتكاسات القومية وأعظمها مثالا هزيمة 1967 العسكرية ثم
هزيمة 1973 على المستوى السياسي بعدما كانت الانتصار عسكريا واضحا، فأدت هذه الهزيمة إلى اعتراف مصر المهزومة سياسيا بدولة إسرائيل ، مما أدى إلى ارتفاع السخط العربي على المستوى الشعبي. وبالتالي دفعها -أي الشعوب العربية – إلى فقدان الثقة في أي نظرية قومية ووحدوية ، فكان التوغل العدائي سهلا في قلب الأمة العربية لضرب أي مشروع يدعو للوحدة العربية من جديد

ب- الأطماع الواضحة لبعض الدول العظمى وخاصة الدول الرأسمالية الموالية لإسرائيل ، والتي ابتدعت نظرية تقسيم العالم ككل إلى شمال غني وقوي ومتقدم وإلى جنوب فقير ومتخلف ومريض.
ج- ظهور لغة ا لسيطرة على المجتمع الدولي باسم القوة
الاقتصادية والعسكرية التي أوضحت بجلاء فيما بعد صحة النظرية الإمبريالية التي تقوم على السيطرة على الموارد العالمية تحت غطاء الحرية والديمقراطية وما إلى هناك من هذه العبارات الفضفاضة .
د- عدم استقرار سياسي واقتصادي على مستوى الدول العربية ،
فهناك دول حباها الله بموارد طبيعية واقتصادية دون الموارد البشرية ، وهناك دول تتميز بالعكس.
هـ- التأثير السياسي والعسكري لإسرائيل على أي حركة نضال
تدعو إلى الوحدة العربية، ويعتبر تأثيرها منذ قيامها على الأرض العربية عام 1948 من العوامل الكبيرة في وقف سيرورة العمل الوحدوي العربي ، فحدود إسرائيل تقع كلها مع دول كانت سباقة إلى الحركة النضالية القومية العربية كمصر وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين ، هذه الدول التي تضم ، إلى حد الآن ، حركات فعالة مازالت تحن إلى هذا النوع من النضال، ومازالت تتبناه في مواقفها على مستوى كل مؤتمر قومي ينعقد في بلد عربي .
و- غياب استراتيجية فكرية وثقافية وإعلامية ذات مضمون واضح
ومؤثر، تنقل كل القرارات والمواقف لأطراف النضال القومي والوحدوي للشعوب العربية أولا ، ثم للشركاء ثانيا ، وللأعداء ثالثا … حتى تكون الصورة واضحة للعيان

البعد الإعلامي والثقافي في المؤثمــرات القومية :
إن معظم البلدان العربية تتميز باستقلال سياسي وإعلامي
وثقافي، وعلى الرغم من ظهور بعض أساليب التبعية السياسية والاقتصادية للقوى الإمبريالية والرأسمالية في العالم. ولكن البعد الإعلامي ، وبوضوح أكثر، المسألة الثقافية ، يبقى هذا البعد مؤشرا واضحا على أن الاندماج العربي على المستوى الثقافي والإعلامي قد حقق أهدافا لا بأس بها إذا ما قارناها مع الإعلام في دول الاتحاد الأوربي أو دول أمريكا الجنوبية أو غيرها من التكثلات المختلفة في عالم اليوم .

إن الهوية العربية هوية ثقافية تحولت إلى هوية سياسية بفعل الحركات القومية، والمقصود بهذه الهوية ، اللغة والثقافة والحضارة بعيدا عن العنصر البشري أو العرق الإنساني. لذلك من المفروض نبذ الوحدة العربية على أساس العرق أو العنصر أو الطائفة، إلا نستنتج في الأخير عنصرية تمييزية ، وهذا يعتبر بالأساس موقف الديمقراطيين الليبراليين . (نقلا عن : عزمي بشارة ، ملتقى الفكر، الأحداث المغربية ، عدد 2660). إن هذه الرؤية التي أتى بها عزمي بشارة تؤكد على تأثير الثقافة واللغة والحضارة في مسألة الوحدة العربية، وبالتالي توحيد كل الدول التي تنتمي إلى هذا الأساس وتؤمن به، بعيدا عن بعض التوجهات والأفكار التي تدعو إلى إخراج الأقليات ومحاربتها باسم اختلافها لغويا ودينيا.

وعلى هذا الأساس يأتي الحديث عن استحضار البعد الثقافي في مسألة الوحدة العربية وتبويئه المكان اللائق به، فبغياب الثقافة والحضارة في هذه المسألة قد يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها. والدليل على ذلك، ما حصل في تجربة القومية الناصرية تحت زعامة جمال عبد الناصر رحمه الله ، ففي أيامه استبعد كل ما هو ثقافي وحضاري وفكري في مسألة توحيد المشارب والنخب العربية ، وتم الاقتصار على الجانب العسكري والسياسي، وقليلا ما كان الجانب الاقتصادي حاضرا خلالها فأدى كل هذا بتجربة عبد الناصر القومية إلى الفناء والهزيمة التي صار يحكي بها الجميع ، واعتبرت المنطلق الأول لتخلف الأمة العربية وضعفها في مواجهة العالم الإمبريالي وغيره.

ومن اللافت للنظر الحديث عن الحقبة التي تلت هزيمة 1967، أي حقبة السبعينات وما تلاها، والتي كانت قد هيأت الفرصة للرأسمالية الاقتصادية للتفوق على قوى حركة الثورة العربية الراهنة ، فعملت على هدم القيم العربية لتقبل بالحلول السياسية والاقتصادية للمشاكل القائمة في الواقع على نحو يلائم الأطماع الرأسمالية والإمبريالية الغربية . (مجلة الوحدة عدد 89 -1992) . وبالتالي فمسألة الهوية الثقافية عرفت انتكاسة واضحة خلال الحقب التي تلت النكسة ، فحصل بعد ذلك ركود ثقافي قومي وحدوي على أساس الفكرية القومية والوحدوية. وتولد صراع سياسي واقتصادي تجلى في المواجهة بين القوى الرأسمالية العربية الجديدة وبين مناهضي هذه القوى من نخب مثقفة وسياسية، ففتح الآفاق أمام التوغل الإمبريالي الغربي ليلعب دوره في تحكيم الهوية الرأسمالية الاقتصادية على الهوية الثقافية والفكرية والتي تطور معها الخروج عن المشروعية القومية ، والدخول في نهج سياسة بديلة عن الوحدة العربية إلى ما يسمى بالهوية الوطنية والمحلية.

ومن هنا ، نستنتج باختصار، أن المسألة الثقافية وفي إثرها المسألة الإعلامية، قد غيبت ، ولازالت مغيبة في جل المؤتمرات القومية العربية ، والسبب راجع إلى الخوف من الأرضية الثقافية التي لا تضع حدودا أو مسلمات أو تجزيئات أمام أي فئة عربية أو أي دولة عربية تضم من بين سكانها أقليات مختلفة ثقافيا إلى موعد آخر كلما جاء وقت مؤتمر قومي عربي. ولا يمكننا أن نسجل من هذا الإجراء، إلا أن نقول بأن القضية الوحدوية لدى العرب لازالت قاصرة ودون مستوى النضوج.

إن استحضار البعد الثقافي في المؤتمر القومي السابع عشر ليس وليد صدفة محضة ، فضرورة استدعاء المثقفين والمفكرين بكل اتجاهاتهم كانت مسألة ملحة أمام منظمي المؤتمر، نظرا لظهور المد الثقافي والأدبي في الساحة العربية، ودخوله غمار النقد القومي والوحدوي ، و رؤيته للواقع العربي في ظل التشرذم والتشتت الواضحين وضوح الشمس، فكل إبداع أو مقال أو كتاب لا يكاد يخلو من إشارة إلى مسألة الوحدة العربية ، ويتطرق بإيضاح إلى التفرقة التي أصبحت ميزة العرب بامتياز. فكان لابد أن يحصل هذا الاستدعاء على نحو شامل وشاسع في الفعل الثقافي. إنه الحل الوحيد الناجم عن المشاكل والإحباطات التي عاشها المؤتمر القومي العربي. فالتاريخ الإنساني برمته تاريخ حضارة وثقافة وفكر. وفهم هذه الوضعية في كل مؤتمر قومي عربي واستحضارها ، ومن بعد ذلك ترك الفرصة للمثقفين للإدلاء بآرائهم بكل حرية ومسؤولية هو دليل على وعي نافذ بالمسألة الثقافية والإعلامية.

مرت يوم الاثنين الماضي 22 فبراير، الذكرى الـ52 على قيام أول وحدة عربية في التاريخ الحديث، وهي الوحدة المصرية- السورية، التي أسفرت عن قيام “الجمهورية العربية المتحدة”، مجسدة حلماً سكن قلوب كثيرين على امتداد الوطن العربي، يرون أن ما يجمع الأمة العربية هو أكثر مما يفرقها، وأنه من العار أن تبقى الحدود المصطنعة بين دولها قائمة.
لكن هذا الحلم سرعان ما تبخر؛ حيث لم تمر سوى 3 سنوات حتى انهارت دولة الوحدة إثر انقلاب عسكري في دمشق. ومن يومها خرجت الكثير من التجارب الوحدوية العربية، كان أكثرها يخرج إلى العلن فجأة ثم سرعان ما ينزوي دون أن يسمع المواطنون العرب عنه شيئا، فهم لم يعرفوا أسباب قيام هذا المشروع الوحدوي أو ذاك، كما لم يفهموا أسباب دفنه في مقبرة التاريخ.
فضلا عن هذا، كانت بعض التجارب الوحدوية تبعث على الدهشة، كونها تقوم بين دول لا تجمع بينها أيديولوجية سياسية أو نظام حكم متشابه، أما المضحك في الأمر فإنه بمجرد إعلان قيام تجمع إقليمي أو تجربة وحدة حتى تظهر في إحدى صحف دولة من دول هذا المشروع امرأة وقد وضعت عددا من التوائم، ودائما تطلق عليهم أسماء قادة هذه الوحدة، وبالطبع لا يعرف مصير هؤلاء التوائم بعد فشل الوحدة والخلافات التي تنشب بين القادة الذين يحملون أسماءهم.
وفي ظل اتجاه العالم إلى الكيانات الكبيرة، ما زال العالم العربي على نفس حالة التشرذم، دون بارقة أمل -إلا قليلا- في قيام كيان عربي قويّ، نعرض هنا نماذج للتجارب الوحدوية العربية، وأسباب فشل هذه التجارب، وكيفية تلافي الأخطاء في حال قيام مشروع وحدوي عربي في المستقبل.
البداية: جذور الطموح الوحدوي العربي
حين يقرأ تاريخ الوطن العربي منذ بداية العمران في ربوعه يتضح أنه كان لعناصر جغرافيته: الموقع والتضاريس والمناخ والموارد الطبيعية، دورها في التوجه الوحدوي التاريخي الغالب على تحركات قبائله وشعوبه والدول التي أقامتها هذه القبائل والشعوب، ذلك أنه لتنظيم الري في كل من وادي النيل ووادي الرافدين قامت الدولة النهرية المركزية القوية. وبسبب ندرة المطر في محيطهما وغلبة الصحراء فيه تعرضت الدولتان في مصر وبلاد الرافدين لغارات وهجرات بدوية متوالية. وفي مواجهة تدفق بشري بدوي مهدد للاستقرار والعمران اعتمدتا الهجوم وسيلة للدفاع، ونمت فيهما الطموحات الإمبراطورية. ويلاحظ انحصار تمدد وفعالية تلك الإمبراطوريات ضمن حدود الوطن العربي، سواء في تلك التي أقامتها الأسر المصرية المتوالية، أو التي تعاقب بروزها في وادي الرافدين.
ثم إن محدودية الأرض الصالحة للزراعة في بقية أنحاء الوطن العربي، وندرة الأنهار فيها، وتدني نصيبها من مياه المطر، تسببتا في أن تشكل التجارة عنصرا أساسيا في الحياة الاقتصادية لمجتمعاتها، ومصدر الدخل الأساس للسلطات القائمة فيها، وبالتالي صار تأمين طرق التجارة ووسائل النقل واستقرار الأسواق وأمانها كبير الأثر في رفاه المجتمع واستقرار السلطة، الأمر الذي عزَّز التوجه الوحدوي التاريخي لشعوب وقبائل الوطن العربي والدول التي قامت فيه.
ولقد كانت شبه الجزيرة العربية أشبه بخزان الشعوب والقبائل الذي يفيض بالهجرات بين الحين والآخر، وذلك بتأثير عامل المناخ بصورة رئيسة. واتخذت الهجرات مسارين: الأول باتجاه وادي الرافدين وبلاد الشام، والثاني عبر الساحل الشرقي للبحر الأحمر إلى مصر والسودان والشمال الإفريقي. وحمل المهاجرون الأولون معهم قرابتهم الجنسية واللغوية والقسمات الحضارية المشتركة. ولم تشكل الجماعات المهاجرة مجتمعات خاصة بها؛ حيث حطت رحالها وإنما تفاعلت على شكل واسع وعميق مع الشعوب والقبائل التي حلت بديارها.
ولقد أحدث الإسلام نقلة نوعية في توجه العرب الوحدوي بإحلاله وحدة الأمة محل التحالفات القبلية، في وجه معارضة أرستقراطية قريش وأعراب البادية. وكانت حروب الردة دفاعا عن وحدة الأمة، ومنذ فجر الإسلام حرص الفقهاء على تأكيد الالتزام بأولوية الوحدة في حياة الأمة، وأهمية السلطة المركزية، ووجوب عروبة القيادة. وذلك بالتشديد على وحدانية الإمام، وأن يكون قرشيا، في رأي جمهور الفقهاء.
واعتبر الإسلام اللغة جذر الانتماء القومي، فالرسول (ص) يقول: “ليست العربية بأحدكم من أب أو أم، وإنما العربية اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي”. كما دعم الإسلام مقومات الوجود القومي العربي: اللغة، والثقافة المشتركة، والتاريخ المشترك.
التجارب الوحدوية: من مصر وسوريا.. إلى اليمن والتجمعات الإقليمية
في 28 سبتمبر 1961 عصف بالوحدة المصرية– السورية انقلاب عسكري نفذته زمرة من الضباط السوريين، الأمر الذي صب في قناة الخطاب القُطري اللاوحدوي، الذي كان قد أذكاه احتدام الصراع حول الوحدة بين التيارين القومي والشيوعي بعيد تفجر ثورة 14 يوليو 1958 في العراق.
وشهدت سنوات ما بعد تفكك الوحدة المصرية- السورية -بحسب بدراسة لعوني فرسخ عن تجارب الوحدة بعد الانفصال بين القاهرة ودمشق- الإعلان عن مشروعات “وحدوية”؛ ففي العام 1963 انتهت المحادثات التي دارت في القاهرة بين ممثلي الأنظمة الحاكمة في مصر وسوريا والعراق إلى الإعلان عن قيام وحدة اتحادية فيما بين الدول الثلاث، وفي 17 أبريل 1971 أعلن الرؤساء: أنور السادات وحافظ الأسد ومعمر القذافي اتفاقهم على إقامة “اتحاد الجمهوريات العربية” من مصر وسوريا وليبيا. ولقي الإعلان معارضة أغلبية أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي في مصر، وعندما عرض على اللجنة المركزية للاتحاد طالبت بإجراء تعديلات عليه، ويرى الكاتب الصحافي المصري أحمد الجمال أن “الاتجاه لهذه الوحدة -من قِبَل الرئيس السادات- كان بغرض: أولاً: تأجيل معركة التحرير، ثانياً: التخلص من المجموعة الناصرية التي كانت في الحكم، ثالثاً: التمهيد نحو طريق آخر”، مشيراً إلى أنه “غاب عن القيادتين السورية والليبية طبيعة الصراع الذي كان دائراً في مصر”.
وهناك مشروع آخر في عام 1978 وهو الوحدة السورية– العراقية، ففي أواخر نوفمبر من ذلك العام عُقد اجتماع بين قيادتي حزب البعث في سوريا والعراق، برئاسة الراحلين: حافظ الأسد وأحمد حسن البكر. وبعد استعراض القيادتين التحديات التي تواجه الأمة، والمشرق العربي بصفة خاصة، جرى توقيع “اتفاق العمل القومي المشترك”. وبموجبه تقرر العمل معا في جميع الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية. وتشكلت هيئة سياسية عليا مشتركة من قيادتي القطرين لتتولى الإشراف على العلاقات بينهما. وحيث لم يكن للقوى الشعبية في القطرين، ولا حتى للمؤتمرين القطريين لحزب البعث في سوريا والعراق، دور في صدور “ميثاق العمل القومي” الذي أصدرته القيادتان، وقصر ذلك على المستوى القيادي، فقد افتقد الاتفاق الحاضنة الشعبية، إلا أنه لم يتحقق إنجاز يُذكر مما جرى الاتفاق عليه، فضلا عن أنه لم يتم عامه الأول؛ إذ انهار في أغسطس 1979 على نحو مأساوي عندما اتهمت قيادة البعث في سوريا بتدبير انقلاب ضد قيادته في العراق.
وشهدت ثمانينيات القرن الماضي بروز مشاريع تكامل إقليمية، لم يبق منها قائم ويمتلك قدرا من الفاعلية سوى “مجلس تعاون دول الخليج العربي”، الذي أعلن تأسيسه رسميا في مايو 1981، ويضم دول الخليج الست: قطر والسعودية، وعمان، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، والبحرين.
ومع حلول عام 1989 حدثت نقلة جذرية، عندما شهد النظام العربي ميلاد تجمعين عربيين جديدين في شهر فبراير هما: “مجلس التعاون العربي”، الذي ضم كلاً من مصر والعراق واليمن والأردن، و “اتحاد المغرب العربي”، الذي ضم دول شمال إفريقيا العربية باستثناء مصر. وهكذا تحولت التجمعات الفرعية من حدث منفرد في عام 1981 إلى ظاهرة في عام 1989. ولم يعد خارج نطاق هذه الظاهرة من البلدان العربية سوى سوريا ولبنان والسودان. وجنباً إلى جنب مع هذا التطور، بدأت تظهر على السطح منظومة فكرية تنظر إليه باعتباره الصيغة الملائمة الجديدة لتحقيق الوحدة العربية.
لكن مثل هذه التجمعات الوحدوية كانت تعاني مشاكل، وانتهت بالتجميد مثلما حدث لـ “المغرب العربي”، وبالفشل السريع لـ “التعاون العربي”، فهذه التجمعات، كما يلاحظ د.أحمد يوسف “لم تمثل أبداً نقلة نوعية نحو رابطة وحدوية أفضل من تلك التي توفرها جامعة الدول العربية”.
ويؤخذ على هذه التجمعات عجزها عن إحداث نقلة نوعية في العلاقات بين أعضائها. فمجلس التعاون العربي عانى بعد بدايته بقليل توتراً واضحاً في العلاقات بين أهم أركانه، أي مصر والعراق “ثم انفجر من الداخل تماماً بسبب وقوف السياستين العراقية والمصرية من أزمة الخليج 1990-1991 على طرفي نقيض”.
وفي العام التالي 1990 أُعلن عن وحدة الجنوب العربي في اليمن مع نظام اليمن الشمالي اعتبارا من مايو من ذلك العام، والتي استمرت بتوافق ملغوم وبشكوك قوية وبتفاعلات ساخنة من الفشل حتى صيف عام 1994؛ حيث اندلعت حرب دموية شرسة بين شريكي الوحدة، انتهت بانتصار الجناح الشمالي وتحول قادة اليمن الجنوبي السابقين إلى لاجئين في دول مختلفة، فتحولت تلك الوحدة منذ ذلك الحين من وجهة نظر أطراف جنوبية إلى “فعل قهر عسكري أفرغ الوحدة الحقيقية من محتواها”.
5 معضلات تعيق الوحدة العربية
وهناك 5 معضلات في طريق تحقيق هدف الوحدة العربية الشاملة، وهي:
1- أن النظام العربي نشأ في الأصل مؤسساً على واقع الدولة القطرية، وتعامل الفكر القومي مع هذه الظاهرة بمزيج من الواقعية والمثالية، فطالب “ساطع الحصري” مثلاً بأن تكون الصيغة الاتحادية الفيدرالية هي الصيغة المنشودة للوحدة العربية. غير أن الوحدويين العرب فاتهم أن الانتقال إلى الحالة الوحدوية لا يمكن أن يتم قبل بناء الدولة القطرية على قاعدة مؤسسية سليمة، ولابد من إقناع الأقليات بأن مشكلاتها يمكن أن تُحل في الإطار العربي الأوسع، ثم كيف يمكن أن يتمتع قرار الوحدة بشرعية حقيقية إذا لم يكن مؤسساً على آليات ديمقراطية في الدولة القُطرية؟
2- معضلة المؤسسية، إذ إن عملية التطور الوحدوي في العالم العربي، تعلقت بإرادة الحكام وليس بقرار المؤسسات. ولعل أحد الفروق الرئيسة بين تجربة الاتحاد الأوروبي والمحاولات العربية للوحدة أن “المؤسسة” كانت هي راعية التجربة الأولى بينما كان الأفراد هم الرعاة في المحاولات العربية.
3- غياب التوازن، إذ تقوم كل التجارب الوحدوية في العالم عادة بين أطراف غير متكافئة من حيث المساحة أو عدد السكان أو الثروة الاقتصادية أو القوة العسكرية، ويلاحظ أن الفكر القومي لم يهتم بهذه المعضلة، ولم ينظر بجدية للحل الفيدرالي.
4- خلافات الفصائل القومية، حيث دخلت هذه الظاهرة إلى حيز الواقع السياسي العربي في إطار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا.
5- المؤثرات الخارجية، حيث يسرف الفكر القومي أحياناً في رد الإخفاقات إلى العوامل الخارجية والمؤامرات الدولية. ولكن رغم معاداة البيئة الخارجية للوحدة المصرية- السورية مثلاً، فإن العوامل الأصيلة في إخفاق محاولات الوحدة العربية هي عوامل ذاتية، أي عربية.
تلافي الإخفاق: اقتلاع عوامل اليأس من نفوس الجماهير
لتلافي فشل محاولات الوحدة والاتحاد بين العرب في المستقبل، يجمع الخبراء السياسيون على أن المصلحة تستدعي من أصحاب التوجه القومي العربي تعميق وتوسيع تفاعلاتهم مع القوى ذات المصلحة في تحقق التكامل القومي والوحدة، بحيث تشكل منها الكتلة التاريخية الفعالة. وفي ضوء الواقع العربي الراهن يشكل الفلاحون والعمال والمهنيون والشباب من الجنسين القوى المؤهلة لأن تحقق الإنجاز الوحدوي المطلوب، وهذا غير مستحيل إذا جرى تفعيل المؤتمر القومي العربي بحيث يغدو القوة المحفزة للحراك الوطني في كل قطر وعلى الصعيد القومي.
ولعل أبرز وسائل النضال المتصل من أجل بناء الوحدة، اقتلاع عوامل اليأس من نفوس الجماهير العربية. ويتم ذلك بوجه خاص عن طريق التأكيد أن العمل من أجل الوحدة عملٌ طويل النفس، عملٌ يُغالب عوامل موضوعية قائمة، وأن فشل تجارب الوحدة العربية لا يعني فشل مبدأ الوحدة، بل يؤكد أهمية العمل العقلاني الطويل في سبيل التغلب على العوامل التي أدت إلى فشل التجارب السابقة، وقد تؤدي، إن استمرت، إلى فشل التجارب اللاحقة. والتاريخ لا يعرف أمة لم تواجه الفشل تلو الفشل في بناء كيانها المرجو، ولكنه يعرف أمماً كثيرة أدركت عوامل الفشل وتغلبت عليها في النهاية. وليست دروس الوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية والوحدة السلافية بل الوحدة الأميركية (الولايات المتحدة) ببعيدة عن أذهاننا. بل لعل من واجبنا أن نعي وعياً أعمق دروس قيام الكيان الإسرائيلي بعد 50 عاماً من ولادة الحركة الصهيونية على يد “هرتزل”.

تركي الحمد
مر على العرب حين من الدهر , كانت فيه الوحدة العربية هي الهدف الاسمى لكل التيارات والايديولوجيات ( المخلصة لقضية الامة , أو التي يفترض بها أن تكون مخلصة , لم يكن مهما حينها كيف تتحقق الوحدة , ولا نوعية الوحدة , ومن الخيانة مناقشة , او حتى التساؤل البرئ , حول امكانية الوحدة : هل هي حلم ممكن , ام رومانسية سياسية بعيدة عن معطيات الواقع , المهم هو أن تكون الحدة غاية الغايات , ومنتهى الامل , وفي ظل هذا الاطار العام , من الممكن أن تتعدد التيارات والاتجاهات والايديولوجيات , وكل منها يرى انه هو الاقدر والاكفأ على تحقيق حلم الوحدة الشاملة , والمرشح الأوحد لقيادة دولة الوحدة , والمعبر الامثل عن آمال الجماهير ومصالحها .
وعندما تأتي هذه الحركة , او ذاك الحزب , او هذا الزعيم او ذاك السلطان الى سدة الحكم , في هذا القطر العربي او ذاك, يحاولون أن يحققوا حلم الوحدة وفقا لأيدولوجياتهم من ناحية , وبناء على معطياتهم القطرية الخاصة , بعد ان ( يقومونها ) ( اي يجعلونها الممثل الوحيد للشعار القومي المرفوع ) , فتصبح قطرية هذا القطر هي القومية بذاتها , او ما يجب ان تكون القومية بعينها , وهذه الظاهرة حقيقة ليست قاصرة على الحركات القومية فقط , بل يمكن تعميمها على كل تلك الحركات التي تتجاوز القطرية والوطنية الصرفة في طروحاتها , وخاصة عندما تتجسد هذه الحركات في دولة ملموسة على الارض , فأيام كان الاتحاد السوفياتي دولة قائمة مثلا , كان كل ما هو سوفياتي , او محققا لمصلحة سوفياتية , هو ذاته المحقق للمصلحة الاممية التي تقول بها ايديولوجية الحزب , وما على الاحزاب الشيوعية في كل الدول , الا ان تدافع عن السياسة السوفياتية , لانها السياسة المعبرة عن مصلحة البشرية جمعاء , وما عدا ذلك فهو تحريفية مدانة , وردة مرفوضة , وخيانة تستوجب العقاب , وفي بلد مثل افغانستان أو ايران مثلا ( وخاصة ايام الثورية المتقدة ) , فأن مصلحة الدولة الافغانية , والمتغيرة حسب التيار القابض على زمام الامر , تعني ببساطة مصلحة الاسلام وكل المسلمين بصفة عامة , وما عدا ذلك فهو انحراف , او حتى نوع من الردة التي تخرج القائل بها عن الملة جملة وتفصيلا.
ولكن الواقع في النهاية يفرض نفسه , ولا يأبه بالحتميات أو الفرضيات الايديولوجية , مهما كانت سامية في جوهرها , ونبيلة في تطلعاتها , وتصطدم مصالح الدول , حتى وان كانت تنتمي الى منظومة ثقافية أو قومية أو حتى ايديولوجية واحدة , برغم الشعار القومي او الديني او الايديولوجي المرفوع , فللدولة وحركتها منطق خاص , يأخذ في اعتباره معطيات قد لا تكون واردة في مفردات الايديولوجيا في النهاية تحني رأسها للدولة ومنطقها , وتخلي الطريق لها , ومن هذا المنطلق يمكن ان ندرك جزئيا لماذا فشلت محاولات الوحدة العربية , ولماذا كان الفشل اكبر حين تحولت تلك الحركات الى دول قائمة , فبدلا من أن يكون تحقيق الاستقلال القطري مثلا , مقدمة لألغاء الدولة القطرية جملة وتفصيلا , وفق ما كانت تبشر به هذه الايديولوجية قاصرة او نحو ذلك , وقد يكون في ذلك شئ من الصحة , ولكنه يعود في جوهره الى ان الدولة حين تقوم , وبغض النظر عن ايديولوجيتها المؤسسة , تخضع في النهاية لمنطق مختلف بالكامل عن منطق تلك الايديولوجيا , فللدول مصالح , وهي ليست متطابقة بالضرورة , ومن هنا يأتي التناقض الرئيسي , ولو نظرت الى الحالة العربية – العربية , والصراعات العربية – العربية , وحتى بين المنتمين الى تيار سياسي أو ايديولوجي واحد , تخطت التناغم والانسجام بمراحل .
هذا من ناحية , ومن ناحية اخرى , حتى وان توصلت دولتان الى اتفاق ما حول ضرورة الوحدة , سواء القناعة أيديولوجية معينة , ام لتحقيق مصلحة مشتركة , فإن قرار الوحدة واعلان دولة الوحدة , لايلبث أن ينهار بعد فترة تطول او تقصر , والسؤال هنا هو : لماذا ؟ بكل ايجاز , يمكن القول أن الاجابة تكمن في ان القرار السياسي للوحدة , قد تجاهل ان المسألة تتجاوز مجرد الارادة الطيبة والنية الحسنة , أن الواقع السياسي والاقتصادي والتنظيمي مثلا , للدولتين المتحدتين يفرض نفسه في النهاية , فالقرار السياسي مهم فعلا , بل هو الخطوة الاولى لأي مبادرة أو مشروع تاريخي , ولكنه لايمكن ان يحقق شيئا بذاته اذا كان هو وحده المعتمد في عملية الوحدة , ومن هنا ندرك الاختلاف بين محاولات الوحدة العربية مثلا , او حتى محاولات الوحدة الاقليمية بين بعض الدول العربية ومحاولة الوحدة الاوربية ابتداء من عام 1958 .
كانت الخطوة الاولى في الوحدة الاوربية القائمة اليوم , قرارا سياسيا بضرورة الوحدة الاوربية في النهاية , لامن منطلقات ايديولوجية مطلقة , ولكن من منطلق المصالح المشتركة لكل الدول الراغبة في الوحدة فما دمر اوروبا في السابق , وما ابعدها عن تحقيق الوحدة , برغم كل العوامل المشتركة بين دولها , لم يكونا الا الايديولوجيات وصراعها , نعم , كان هنالك تضارب في مصالح الدول الاوروبية , وخاصة في ايام امبراطوريات الاستعمار , ولكن الايديولوجيات المختلفة أدت الى تاجيج نار ذلك التضارب , وتحول في الخاتمة الى صراع ناب ومخلب , واكلت نار الحروب الجميع في الخامتمة , فالعقلانية السياسية الاوروبية في العلاقات فيما بينها , لم تأت من فراغ , ولم تكن مجرد اختيار حكيم , بقدر ما كانت نتيجة اكتشاف تاريخي من كونها الحل الضروري والمناسب , وفي مقابل الصراع الدموي المتكرر , والذي لا يسفرعنه غالب ومغلوب , بل الجميع فيه مغلوبون .
وبعد ان وصلت اوروبا الى مثل هذه العقلانية في علاقاتها بين اقطارها , قررت ان تتحد .
عندما تظهر كل دولة الى الوجود كدولة , تجسد نفسها اجتماعيا من خلال انظمة وقوانين ونظام سياسي معين , ومحاولة نشر ثقافة سياسية معينة ونظام تنشئة سياسي واجتماعي نابع من الايديولوجيا المتبناة , وبالذات من خلال نظام تربية وتعليم تطل فيه الدولة والنظام السياسي من كل سطر في المقرر الدراسي .
وفوق كل ذلك تحاول كل دولة من تلك الدول القطرية , بالرغم من انها رسميا ضد القطرية , أن (تشرعن) وجودها من خلال البحث في ملف التاريخ القومي او الثقافي المشترك , عن شئ خاص بها , لتعلي من شأنه , وتركز عليه في وسائل اعلامها ومؤسسات التنشئة فيها , موحية بهذا الشكل او ذاك , بانها وتاريخها اهم شئ يمكن الاطلاع عليه في ذلك لملف , والحقيقة ان القضية ليست هنا نقدا لهذا الاتجاه او ذاك , بقدر ماهي مجرد محاولة لكشف تلك الازدواجية القاتلة في السلوك والفكر السياسيين وغير العربيين , اللذين يحاولان دائما الجمع بين النقائض , فتضيع عليهما في النهاية كل تلك النقائض , ولا يحصلان على ما كان يريدان من جمعها .
وعندما يصدر القرار السياسي بالوحدة , وعاجلا وليس آجلا فان تلك المعوقات البسيطة للوحدة تكشف عن نفسها في النهاية فأذا هي تناقضات مدمرة بالكامل : انظمة سياسية مختلفة مهما بدا فيها من تشابه , نظم وقوانين مختلفة , تنشئة سياسية واجتماعية متناقضة , ومرتبطة بالدول القطرية نفسها التي مارست الوحدة , نظم تربية وتعليم خلقت عقولا ذات توجهات وقناعات وايمانات مختلفة , ناهيك بتفصيلات الاقتصاد والمجتمع وغيرهما من تلك الامور , ولذلك فعندما تتشابك الخطوط , وتختلط الاوراق , وتتداخل الاسلاك يكون الطلاق , برغم انه حل بغيض وان كان حلالا , واعتقد انه طوال التاريخ العربي المعاصر , كانت هنا معضلة المحاولات الوحدوية العربية , وما شاكلها وشابهها من محاولات , سواء اكانت محاولات اقليمية أم محاولات متجاوزة للقومية ذاتها .
والعائق الرئيسي الذي ادى الى فشل المحاولات الوحدوية بين دولتين عربيتين أو اكثر ,في طريقه الى الزوال حقيقة , فما فعله الاوروبيون بمبادرة ذاتية ادت الى قيام الكيان الصهيوني الواحد في النهاية , ها هو اليوم يقدم على طبق من ذهب الى العرب , او اي تجمع اقليمي يسعى الى الوحدة والكيان الاكبر , في عالم يضيع فيه الصغير , فهل ينتهز العرب , أو بعضهم هذه الفرصة للبدء في خطوات وحدوية قائمة على اسس سليمة , ويدخلون عالم اليوم بقوة , ام سينتظرون من يوحدهم رغما عنهم , ولمصلحته الخاصة , بينما هم لاهون في مناقشة اضرار العولمة على الهوية , في هوس مبالغ فيه , ومحاربة طواحين الهواء , عفوا اقصد مطاعم الهامبورغر والهوت دوغ , فلا يجدون انفسهم في النهاية الا وقد ضاعوا في زحمة التاريخ .

قبل أن ابدأ الحديث عن أسباب فشل العرب في تكوين إتحاد لابد من أن أتطرق لماذا تتوحَّد أوروبا، المختلفة في القوميات والأَعراق واللّغات، ولايتوحَّد العرب الذين يتكلمون لغة واحدة؟” وعلى الرغم من الأزمة الحالية التي يمر بها الاتحاد الأوروبي لا يزال الرأي العام العربي يعتبر هذا الاتحاد نموذجاً له، من الممكن أن تستنبط منه مبادئ مهمة بالنسبة لتطوّر مشابه في منطقة الشرق الأدنى. حيث تتأثر إستراتيجيات ومصالح البلدان العربية تأثرًا مباشرًا في نجاح أو فشل الاتحاد الأوروبي، كونه مثالاً لاتحاد تكاملي ناجح اقتصاديًا وسياسيًا يتكون من دول مستقلة ،بالنظر إلى التجربة الأوروبية، تتضح – أسباب فشل محاولات الوحدة العربية فالأسباب

كثيرة ولكنني ساذكر جزءً منها وهي كالتالي :-

1- أن الفشل له أسبابه الداخلية في كل دولة عربية‏. من خلال لائحة الدولة ومؤشراتها‏,‏والتي تؤكد أن خطر التفكك والانهيار للدولة العربية يرجع الي عوامل حقيقية داخلية يجب إيجاد حلول لها ليس فقط للانطلاق نحو دعوة وهدف الوحدة العربية للحفاظ أولا علي بقاء ووحدة وكيان كل دولة عربية‏.‏

أما الأسباب الخارجية فهي أن هناك وثائق كثيرة تفضح الدور الأمريكي والدور الإسرائيلي في إفشال الوحدة العربية‏,‏ والآن توجد الكثير من الوثائق والمعلومات التي تؤكد جدية المساعي الأمريكية والإسرائيلية لإفشال الدولة الوطنية العربية وتفكيكها وإعادة تقسيمها‏.

2- تفتيت الوجود العربي رأس الأهداف الصهيونية:وقد التقت خطة الاستعمار والإمبريالية هذه مع الخطة الصهيونية وأهداف الحركة الصهيونية منذ بدايتها، وولد منذ ذلك الحين حلف مشترك يحمل هدفاً مشتركاً أساسياً هو السعي الدائب لتفتيت الوجود العربي بشتى الأساليب، عن طريق استغلال الانقسامات الطائفية والعِرقية، وعن طريق إذكاء المصالح القُطرية الضيقة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، تحقيقاً لاستقرار الدولة اليهودية وضماناً لأمنها.‏

3- دور الاستعمار والإمبريالية:‏يُضاف إلى هذا أن الاستعمار، ومن بعده الإمبريالية، قد جعلا على رأس أهدافهما إضعاف الوجود العربي عن طريق تجزئته وتفتيته، والحيلولة بينه وبين وحدته وتضامنه، ومنع تقدمه بالتالي، وتعطيل أي جهد يقوم به من أجل بناء مشروعه الحضاري المتقدم وكيانه الموحد القادر. ونرى ذلك واضحاً في تصريحات الكثير من أقطاب الدول الاستعمارية منذ أيام ازدهار الاستعمار البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (ويكفي من أجل ذلك أن نرجع إلى تقرير بنرمان الشهير عام (1907) حتى ظهور الإمبريالية الجديدة). كما كان واضحاً في نكوص تلك الدول عن وعودها للعرب بعد الحرب العالمية الأولى (معاهدة سايكس بيكو، مؤتمر الصلح بفرساي، مؤتمر سان ريمو وسواها) ثم في تآمرها الحديث ضد الوحدة العربية المصرية السورية بوجه خاص، وضد أي جهد وحدوي آخر.‏

4- إختلاف التركيبة السياسية :- أن دول العالم العربي مختلفة اختلافًا جوهريًا في تركيبتها، عن التركيبة الديموقراطية لكل دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.فالشرعية الديموقراطية للاتحاد الأوروبي على المستوى القومي والاستقرار السياسي النسبي الموجود لدى أنظمة دول الاتحاد الأعضاء، هي نقيض واضح للأوضاع السائدة في الكثير من الدول العربية.وبينما كانت شعوب دول الاتحاد الأوروبي تعتبر الوحدة التكاملية الأوروبية، مباشرة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، سبيلاً للوصول إلى السلم في الأزمات التي كانت تدور بين الدول، كثيرًا ما كانت تُـحدَّد محاولات الوحدة العربية في الماضي – على نقيض ما جرى في أوروبا.

– فقط في العناية بـ”أمن النظام الحاكم”، وليس بأمن الشعوب والمجتمعات أو النظام ككل.

5- المقَّدمات الفكرية المختلفة، التي دُفِعت على أساسها عمليات الوحدة المعنية إلى الأمام، وعلى عكس ما في عملية الاتحاد والاندماج التكاملي الأوروبية، التي تهدف إلى أن تكون وسيطًا ما بين الاختلافات القومية

والمذهبية والثقافية الموجودة لدى دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء، فإن فكرة الوحدة العربية – ليست وسيلة من أجل التغلُّب على المشاكل والصعوبات الداخلية، التي تعيق نهوض الأمّة العربية، بل الأرجح أن فكرة الوحدة العربية هي وسيلة، من أجل مواجهة التحديات الخارجية، التي يتم تحميلها مسؤولية عجز العرب، وهي كذلك وسيلة، من أجل إعادة إحياء أمجاد العرب الغابرة.إذن، بينما تُـحدّد الوحدة ضمن السياق الأوروبي الهدف، الذي يتحتم من أجل تحقيقه إيجاد آليات لتسوية الأزمات الأوروبية الداخلية، يتم ضمن السياق العربي تحديد وحدة الأمة العربية كشرط لاقامة “اتحاد عربي”.كما لا تبدو الاختلافات والأزمات الداخلية في هذا الإدراك كحال عادية ونتيجة حتمية لتعدّدية اجتماعية، إنما كانحراف عن الوحدة وتهديد لها مقابل التهديدات الخارجية. من وجهة النظر هذه يمكن اعتبار الشروط الجيوسياسية، التي أعاقت في الماضي تحقيق وحدة عربية فعّالة، فقط كمعوقات إضافية. وحتى بالنظر إلى الأزمات العالمية الحالية والمصالح المشتركة الاقتصادية المفترضة ، وعلى الرغم من تعدد المصالح المشتركة، فإن الدولالعربية منفردة تواجه القوى الاقتصادية والسياسية للاتحاد الأوروبي كشريك في المعاهدة من دون مساندة منظمة عربية فوق دولية.

6- أمراض التجزئة:‏ ذلك أن أمراض التجزئة قد استشرت في أرجاء الوطن العربي بعد حقبة طويلة من الانفصال بين أجزائه، ومن غير الجائز تجاهلها أو التقليل من خطرها. ولعل تلك العلل التي ولدتها التجزئة، وما رافقها من قيام كيانات متحجرة ومن ولادة مصالح طبقية وسياسية معطِّلة، هي من أبرز العوامل التي ساعدت على فشل تجارب الوحدة العربية في العقود الأخيرة.

لاسيما أن آثار تجزئة الوطن العربي من قبل الاستعمار الغربي قد انضافت إليها آثار حقبة طويلة من التخلف والجهالة مرت بها الأمة العربية منذ انهيار الدولة العربية وسقوطها في أيدي أخلاط المغول والتتر والأتراك، ومنذ سقوط بغداد بوجه خاص على يد هولاكو عام 1258، وما تلا ذلك من حكم عثماني مغرق في الجهالة ومعادٍ للعروبة، خلَّف في الواقع العربي وفي النفوس والعقول من عِلل التجزئة وأمراضها ومن مظاهر الإقليمية وأعراضها أوبئة كثيرة لا يمكن إغفال دورها في مقاومة العمل الوحدوي الناشئ.

حال الدول العربية مليء بالمتناقضات، فتسيطر الفوضى ويخيم الركود والجمود على الشارع العربي، مع وجود الثروات الهائلة وسرعة عملية التحديث وبناء المدن المتطورة الجديدة وزيادة الاستثمارات. كل هذا يوجد جنبًا إلى جنب مع تفشي الأمية والجهل بين الشعوب العربية، مما ينبئ بحدوث كارثة حقيقة تهدد مستقبل الأمة العربية.

هذه كانت مقدمة للدراسة التي أعدها دافيد أوتاوي – الباحث الكبير بمركز وودرو ويلسون للخبراء الدوليين، والذي كان يعمل صحفيًّا ورئيس مكتب واشنطن بوست في الشرق الأوسط الموجود بالقاهرة في الفترة من 1971-2006 والتي حملت عنوان ” The Arab Tomorrow غد العرب” والمنشورة بدورية “ويسلون Wilson Quarterly” عدد شتاء 2010 الصادرة عن “مركز وودرو ويسلون الدولي للباحثين. بحسب موقع تقرير واشنطن.

محاولات الوحدة والفشل المستمر

يستعرض الكاتب ماضي العرب التليد وكيف أنهم يختلفون عن باقي الأمم لأن لديهم روابط مشتركة في اللغة والدين والأعراق لا تتوفر لأي أمة أخرى . وكذلك يتحدث عن العهود الذهبية للعرب والمسلمين في ظل الخلافات القوية في دمشق وبغداد . كذلك يشترك العرب في نضالهم ضد المستعمر الأجنبي الفرنسي والبريطاني الذي سنحت له الفرصة لاحتلال أراضي العرب بعد ضعف الخلافة العثمانية وانتهاء حكمها إبان الحرب العالمية الأولى عام 1914.

وكان نتيجة ذلك قيام عصبة الأمم بوضع الأراضي المنتمية للدولة العثمانية تحت الوصاية الفرنسية والبريطانية، وكانت هذه بداية ضعف وتفكك الأمة العربية. وبعد ذلك بعقود قليلة قامت سبع دول عربية بتوقيع ميثاق إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945 كمحاولة لتقوية شوكة العرب واتحادهم لمواجهة العدو الصهيوني المحتل لأرض فلسطين. ولكن لم يفلح إنشاء الجامعة العربية في درء هذا الخطر فصدر قرار من الأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين فلسطينية ويهودية مع تدويل مدينة القدس.

ولقد حاول العرب الدفاع عن أرض فلسطين بكل إمكانياتهم ودخلوا في حرب مع العدو الصهيوني عام 1948 إلا أنها انتهت بخسارة العرب لأرض فلسطين، ونجاح العدو الصهيوني في تأسيس دولة إسرائيل فيما عرف بـ” النكبة”.

دور مصر كقوة إقليمية

يبتدئ الكاتب الحديث عن مصر باعتبارها من أكبر القوى الإقليمية الموجودة في المنطقة العربية، ودورها الرائد وزعامتها والتي كانت في قمتها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يقود العرب لتحقيق حلم القومية العربية والتخلص من القوى الاستعمارية وتحرير كل البلاد العربية الخاضعة للمحتل . وقد قام بتحقيق الجلاء البريطاني عن مصر بعد ثورة 1952 التي حررت الشعب المصري من النظام الملكي الفاسد، وعمل على تحقيق النهضة الشاملة في البلاد زراعيًّا، وصناعيًّا، وعسكريًّا.

كما قام بمساعدة عديدٍ من حركات التحرر التي قامت في البلاد العربية الخاضعة للاستعمار، في الجزائر والسودان، وكذلك الثورات التي حدثت في مجموعة أخرى من البلدان ضد نظم الحكم في العراق، وسوريا، وليبيا.

بالإضافة إلى قيامه بتوجيه ضربة قوية للقوى العظمى بريطانيا وفرنسا عندما قام بتأميم شركة قناة السويس عام 1956، ما أعقب ذلك من العدوان الثلاثي على مصر من قبل فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، والتفاف العرب أجمعهم خلف مصر لمؤازرتها . واستطاع أن يؤكد مكانة مصر دوليًّا من خلال الاشتراك في تأسيس حركة عدم الانحياز ورئاستها. ولكن نجم عبد الناصر أخذ بالخبو في أعقاب هزيمة 1967 إلى أن توفي عام 1970.

ثم خلف عبد الناصر السادات الذي قدم نموذجًا مختلفًا للقيادة، فقد كانت أفكاره جريئة ومتجددة. فقام بالتحول عن النظام الاشتراكي الذي وضعه عبد الناصر إلى سياسة “الانفتاح” الهادفة إلى لتحرير الاقتصاد، وعمل على تشكيل نظام سياسي جديد يقوم على تعدد الأحزاب بدلاً من نظام الحزب الواحد. وحقق نصرًا أسطوريًّا على إسرائيل في السادس من أكتوبر عام 1973 واسترد سيناء من خلال قراره بالدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل.

وبعد زيارته للقدس عام 1977، مضى السادات قدمًا لعقد اتفاقية سلام ثنائية مع إسرائيل والتي تم توقيعها عام 1979، الأمر الذي استفز وأثار حفيظة الدول العربية وقررت الجامعة العربية طرد مصر ونقل المقر إلى تونس بدلاً من القاهرة وأدى هذا لإنهاء زعامة مصر للعالم العربي . ولكن لا يوجد أدنى شك – كما قال أوتاوي – في أن السادات عمل بشكل فردي على تغيير مسار تاريخ الشرق الأوسط.

وبعد اغتيال السادات عام 1981 على يد المتطرفين الإسلاميين، جاء نائبه حسني مبارك إلى الحكم، والذي كان حكمه بداية نهاية التفوق والزعامة المصرية في العالم العربي . فيرى أوتاوي أن حسني مبارك لم يستطع خلال سنوات حكمه التسعة والعشرين أن يملأ مكان أسلافه.

التحديات التي تعوق وحدة العرب

مع مرور الوقت ثبت زيف الأحلام والطموحات العربية نحو الوحدة، فالدول العربية الـ(22) أعضاء الجامعة العربية، الذين يمثلون 350 مليون مواطن عربي أصبحوا يعيشون في حالة من الفوضى والشجار والفرقة والانقسام اللامتناهي، على الرغم من وجود كيانات إقليمية صغيرة أدت إلى تحقيق تقدمٍ صغيرٍ نحو الوحدة العربية مثل: مجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي (ليبيا، تونس، الجزائر والمغرب).

وعرض الكاتب لعديد من الأزمات التي تمثل تحديًّا كبيرًا أمام الوحدة العربية منها:

أ- الحروب الأهلية التي قطعت أوصال الأمة العربية في ( السودان، لبنان والصومال).

ب- تصاعد نفوذ الحركات الإسلامية المسلحة في كل من( الجزائر، العراق والصومال).

ج- انتشار الاحتقانات الطائفية بين السنة والشيعة في ( العراق، لبنان والبحرين).

د- نشاط التيار الإسلامي المتشدد ضد الفكر الوسطي المستنير في كل من مصر والجزائر والمملكة العربية السعودية، بالإضافة لانتشار الإرهاب المتمثل في تهديدات تنظيم القاعدة والتنظيمات المنتمية لها في الدول العربية – خاصة في العراق والسعودية – بالإضافة للحركات المتطرفة الأخرى.

ويؤكد أوتاوي أن أخطر هذه التحديات هي الانقسامات بين السنة (90% من سكان الوطن العربي) والأقلية من الشيعة المتمركزين في العراق ولبنان والبحرين، والذي ظهر في العصور الإسلامية الأولى وازدادت حدته مع قيام الثورة الإسلامية الشيعية في إيران وإنشاء الدولة الثيوقراطية. وبمرور الوقت تصاعد نفوذ إيران في المنطقة في محاولة لدعم الأقليات الشيعية الموجودة في الدول العربية ذات الأغلبية السنية، بالإضافة للتهديدات الناتجة عن تطوير إيران لقدراتها النووية.

عملت الثورة الإسلامية الإيرانية (عام 1979) على إدخال الدين في الخطاب السياسي في الدول العربية، وازداد هذا الأمر مع الغزو السوفيتي لأفغانستان في العام ذاته، وذهاب عديدٍ من المجاهدين من الدول العربية والإسلامية لمناصرة مسلمي أفغانستان ضد العدو السوفيتي الملحد.

وبعد انتهاء الحرب، عاد هؤلاء المجاهدون لبلادهم بعدما أشربوا الفكر السلفي المتطرف وقاموا بمهاجمة الأوضاع الفاسدة في بلادهم وأصدروا أحكامًا بتكفير مجتمعاتهم، وقاموا بأعمال عنف واغتيالات لرموز التنوير في هذه البلاد، الأمر الذي قوبل بالقمع من قبل النظم الحاكمة. ولكن هناك طريقة أخرى اتخذها الإسلاميون لبسط نفوذهم على الحياة السياسية بعيدًا عن العنف وهي الانخراط في العمل السياسي في دولهم، ففاز الإسلاميون على سبيل المثال في الانتخابات البرلمانية في الجزائر عام 1992، وفي مصر2005.

الجمود السياسي سمة الأنظمة العربية

ويرى أوتاوي أن الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 كان لها أكبر الأثر في زيادة نفوذ الحركات الإسلامية المسلحة وزيادة الاحتقانات بين السنة والشيعة . فمع سقوط نظام صدام حسين انتهى الحكم السني في العراق، وأتيحت الفرصة لأول مرة للأغلبية الشيعية المشاركة في الحياة السياسية وتم تكوين أول حكومة عراقية يتولاها رئيس وزراء شيعي في أعقاب الانتخابات البرلمانية عام 2005، ولم يتم إعطاء العناصر السنية فرصًا حقيقية للمشاركة في العملية السياسية الأمر الذي دفع بعديدٍ من السنة الانضمام للمليشيات المسلحة التابعة للقاعدة والقيام بأعمال عنف تستهدف الشيعة.

ومع زيادة نفوذ الإسلام السياسي في الدول العربية، تتراجع كل الفرص التي قد تقدمها النظم الأوتوقراطية التي تحكم العالم العربي للإصلاح، بالرغم من أن هذه الفرص لا طائل من ورائها – على حسب تعبير أوتاوي – ولا تقدم جديدًا لأن جميع المحاولات الإصلاحية السابقة كانت نتاج أفكار الغرب.

ويؤكد أوتاوي أن الجمود السياسي الحالي الذي ينتشر في أغلب النظم العربية أدى إلى فقدان عملية تداول السلطة فيها، وضرب مجموعة من الأمثلة على استمرار الحكام العرب في مناصبهم لفترات طويلة (الرئيس مبارك يحكم مصر منذ 29 عامًا، الرئيس معمر القذافي يحكم ليبيا منذ 40 عامًا، الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يحكم لمدة22 عامًا).

ولا تقصر هذه الظاهرة على النظم الجمهورية فقط، فهي متجذرة في النظم الملكية فالعائلات الملكية في دول الخليج تحكم منذ عشرات السنين، كذلك الأمر في المملكة المغربية حيث تحكم الأسرة المالكة منذ عام 1666 ميلادية.

ثم ينتقل أوتاوي للحديث عن ظاهرة التوريث في العالم العربي ويؤكد أنها انتقلت من النظم الملكية للنظم الجمهورية أيضًا، فبدأت سوريا في هذا عندما توفي الرئيس حافظ الأسد عام2000، وخلفه ابنه بشار – الذي تم تعديل الدستور من أجله ليصبح سن رئيس الجمهورية 35 عامًا بدلاً من 40 – كما يسعى كلا من مبارك والقذافي والرئيس اليمني على عبد الله صالح لإعداد أبنائهم لخلافتهم .

تراجع الدعم الأمريكي للديمقراطية

وفي أعقاب الحرب الأمريكية على العراق 2003، قامت إدارة بوش بوضع أجندة لترويج الديمقراطية في العالم العربي باعتبار أن توفير مناخ الحرية والديمقراطية في الدول العربية والقيام بإصلاحات شاملة على المستوى السياسي يمكن أن يؤدي إلى تقليل العنف والإرهاب.

فدعت إدارة جورج بوش حليفتها في المنطقة – مصر والسعودية – بالعمل على إجراء إصلاحات على المستوى السياسي لكي يكونا نموذج الديمقراطية في المنطقة. وبرغم رفض الدول العربية الإملاءات الأمريكية والتأكيد على أن الإصلاح لابد أن يأتي من الداخل، قدمت هذه الدول مجموعة من الإصلاحات الشكلية من قبيل إجراء انتخابات محلية وبرلمانية، تخفيف الرقابة على الصحف، والسماح بوجود أحزاب معارضة شكلية.

ولقد نتج عن هذه الإصلاحات – خاصة الانتخابات البرلمانية في الدول العربية – إلى بروز دور الإسلاميين ذوي التوجهات المحافظة، فأسفرت الانتخابات الخاصة بمجلس الشورى السعودي عن فوز السلفيين على المعتدلين، كذلك أسفرت الانتخابات التشريعية في مصر عام 2005 بفوز الإخوان المسلمين بـ88 معقدًا في مجلس الشعب المصري. وأخيرًا نتج عن الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 فوز حماس .

وقد أدى هذا إلى تراجع إدارة بوش عن الترويج للديمقراطية، واستوعب باراك أوباما هذا الدرس فلم يركز على قضية الترويج للديمقراطية، بالرغم من انتقاده بشدة من قبل مناصري حقوق الإنسان – المحافظين والديمقراطيين على السواء – بسبب تخليه عن مهمة الولايات المتحدة لنشر الديمقراطية في العالم العربي.

تراجع نفوذ القوى الإقليمية

ولقد بدأ نفوذ القوى الإقليمية الكبرى (مصر-السعودية) في التراجع أمام الدويلات الصغيرة في الخليج التي تمتلك ثروات هائلة نتجت عن امتلاكها للنفط، والتي نمى اقتصادها بشكل سريع خلال السنوات الأخيرة وانفتحت على السوق العالمية من خلال العمل على إنشاء الاستثمارات الضخمة في العديد من دول العالم، كما انفتحت على الثقافة الغربية وقامت بتحسين مستوى التعليم بها، فاستضافت أكبر وأشهر جامعات العالم لتحمل حركة التحديث لكل الدول بالمنطقة ولتقوم بدور ريادي مستمد من نفوذها المادي.

بالإضافة إلى ذلك تحاول هذه الدويلات القيام بدور سياسي بديل للقوى الإقليمية الكبرى، وعلى رأس هذه الدول قطر، ففي أعقاب الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة قامت قطر بتجاهل مكانة مصر والسعودية كقوى إقليمية لها وزنها ودعت لعقد قمة عربية طارئة لمناقشة الموضوع، ولم يستجيب للدعوى سوى 14 دولة وقاطعتها مصر والسعودية وبقية الدول.

السيناريوهات المحتملة

ويختتم الكاتب مقاله بالقول بأن دور مصر كقوى إقليمية في المنطقة بدأ في التراجع مع بداية عصر مبارك إلى أن إلى حد التلاشي، وأن الوضع لن يتغير بعد مبارك لأن الوضع في العالم العربي تغير بصورة لا رجعة فيها، وأن الدول العربية لن تكترث بعودة الدور الريادي لمصر لأنه لا يوجد نموذج مصري للتنمية السياسية والاقتصادية يمكن أن يحتذى به. ولذلك فإن كل نظريات ورؤى التغيير والتطوير تأتي الآن من الدويلات الصغيرة في الخليج التي تتخذ النموذج الغربي في التحديث، ونظمها قابلة للتطوير على العكس من النظام المصري المتسم بالجمود . ويؤكد أن الدول العربية تستمد حيويتها من تراجع الدور المصري.

ويضع أوتاوي سيناريوهين لمستقبل الوطن العربي، تتمثل في الآتي:

النموذج الأول: النموذج المتمثل في قيادة الدول الخليجية ذات الثروات الطائلة .

النموذج الثاني: النموذج الإسلامي المحافظ القائم على التمسك بأحكام الشريعة، والذي يروج له الأصوليون.

ويختتم مقاله بالتأكيد على أن الوحدة العربية باتت سرابًا سواء على المستوى الاقتصادي أم السياسي، فعلى المستوى الاقتصادي تتجه الدول العربية المصدرة للبترول والغاز الطبيعي للتعاون مع الدول غير العربية، فدول الخليج تتجه شرقًا للتعاون مع الهند والصين وباقي الدول الآسيوية، في حين تفضل دول المغرب العربي التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي.

وعلى الصعيد السياسي لا توجد رؤية سياسية متجددة موحدة تتفق عليها الدول العربية لحل القضايا المعاصرة، وتواجه بها المد الإسلامي، وتكتفي فقط بالحفاظ على مخزون من الأفكار التاريخية البالية التي لا تصلح لهذا العصر الأمر الذي ينذر بكارثة حقيقية تهدد مستقبل هذه المنطقة.

ماهي العوامل التي تعيق تشكيل وحدة عربية يواجه العرب من خلالها التحديات الخارجية وتساعدهم على فرض أنفسهم على الخريطة السياسية الدولية؟ حسن نافعة كتب دراسة بعنوان “الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة عربياً“. غوتس نوردبروخ يقدمها لنا.

كتب هاشم صالح قبل فترة قصيرة في صحيفة الشرق العربي متسائلاً: “لماذا تتوحَّد أوروبا، المختلفة في القوميات والأَعراق واللّغات، ولا يتوحَّد العرب الذين يتكلمون لغة واحدة؟”

على الرغم من الأزمة الحالية التي يمر بها الاتحاد الأوروبي لا يزال الرأي العام العربي يعتبر هذا الاتحاد نموذجاً له، من الممكن أن تستنبط منه مبادئ مهمة بالنسبة لتطوّر مشابه في منطقة الشرق الأدنى.

تتأثر إستراتيجيات ومصالح البلدان العربية تأثرًا مباشرًا في نجاح أو فشل الاتحاد الأوروبي، كونه مثالاً لاتحاد تكاملي ناجح اقتصاديًا وسياسيًا يتكون من دول مستقلة، ولكن أيضًا كونه حليفًا محتملاً في الأزمات العالمية.

يقوم أستاذ العلوم السياسية المصري، حسن نافعة في دراسته المستفيضة التي صدرت في صيف عام 2004 عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، تحت عنوان “الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة عربيًّا”، بتوثيق هذا الاهتمام.

وبكونها دراسة تحليلية تتفحّص “تجربة الوحدة التكاملية الأوروبية بعيون عربية”، فهي تربط ما بين الجدل في تاريخ وتركيبة الاتحاد الأوروبي بالمطلب في إعادة طرح محاولات الوحدة العربية. وبالنظر إلى التجربة الأوروبية، تتضح – حسب رأي نافعة – أسباب فشل محاولات الوحدة العربية.

إختلاف التركيبة السياسية

يولي حسن نافعة في ذلك اهتمامًا خاصًا بالشروط الأوروبية الداخلية والسياسية الداخلية، التي يجعلها مسؤولة عن نجاح التجربة الأوروبية، إلى جانب الشروط الجيوسياسية الأساسية، التي حدّدت العلاقات ما بين الدول الأوروبية وبدأت بعد الحرب العالمية الثانية في تفعيل عملية وحدة بطيئة.

كما يذكر، قبل كل شيء، أن دول العالم العربي مختلفة اختلافًا جوهريًا في تركيبتها، عن التركيبة الديموقراطية لكل دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

فالشرعية الديموقراطية للاتحاد الأوروبي على المستوى القومي والاستقرار السياسي النسبي الموجود لدى أنظمة دول الاتحاد الاعضاء، هي نقيض واضح للأوضاع السائدة في الكثير من الدول العربية.

وبينما كانت شعوب دول الاتحاد الأوروبي تعتبر الوحدة التكاملية الأوروبية، مباشرة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، سبيلاً للوصول إلى السلم في الأزمات التي كانت تدور بين الدول، كثيرًا ما كانت تُـحدَّد محاولات الوحدة العربية في الماضي – على نقيض ما جرى في أوروبا – فقط في العناية بـ”أمن النظام الحاكم”، وليس بأمن الشعوب والمجتمعات أو النظام ككل.

لماذا الوحدة العربية؟

بيد أن المقَّدمات الفكرية المختلفة، التي دُفِعت على أساسها عمليات الوحدة المعنية إلى الأمام، لا تعتبر بالنسبة لنافعة أقل حزمًا وأهمية.

وعلى عكس ما في عملية الاتحاد والاندماج التكاملي الأوروبية، التي تهدف إلى أن تكون وسيطًا ما بين الاختلافات القومية والمذهبية والثقافية الموجودة لدى دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء، فإن فكرة الوحدة العربية – مثلما يكتب نافعة – ليست وسيلة من أجل التغلُّب على المشاكل والصعوبات الداخلية، التي تعيق نهوض الأمّة العربية، بل الأرجح أن فكرة الوحدة العربية هي وسيلة، من أجل مواجهة التحديات الخارجية، التي يتم تحميلها مسؤولية عجز العرب، وهي كذلك وسيلة، من أجل إعادة إحياء أمجاد العرب الغابرة.

إذن، بينما تُـحدّد الوحدة ضمن السياق الأوروبي الهدف، الذي يتحتم من أجل تحقيقه إيجاد آليات لتسوية الأزمات الأوروبية الداخلية، يتم ضمن السياق العربي تحديد وحدة الأمة العربية كشرط لاقامة “اتحاد عربي”.

كما لا تبدو الاختلافات والأزمات الداخلية في هذا الإدراك كحال عادية ونتيجة حتمية لتعدّدية اجتماعية، إنما كانحراف عن الوحدة وتهديد لها مقابل التهديدات الخارجية.

من وجهة النظر هذه يمكن اعتبار الشروط الجيوسياسية، التي أعاقت في الماضي تحقيق وحدة عربية فعّالة، فقط كمعوقات إضافية. وحتى بالنظر إلى الأزمات العالمية الحالية والمصالح المشتركة الاقتصادية المفترضة، فإن نافعة مرتاب لهذا السبب من مشاريع مستقبلية لوحدة عربية.

كما أن المعاهدات المبرمة بين الاتحاد الأوروبي والدول العربية في إطار الشراكة الأورومتوسطية، التي سيتم الاحتفال بذكرى تأسيسها العاشرة في هذه السنة، تعتبر بالنسبة لنافعة مثالاً يوطّد هذه الريبة.

وعلى الرغم من تعدد المصالح المشتركة، فإن الدول العربية منفردة تواجه القوى الإقتصادية والسياسية للاتحاد الأوروبي كشريك في المعاهدة من دون مساندة منظمة عربية فوق دولية.

ماذا لم ينجح التكامل الاقتصادي العربي؟

 

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا لم يتحقق التكامل الاقتصادي العربي في الواقع رغم كثرة الحديث عنه؟ بل لعل سؤالاً سابقاً يطرح نفسه، هل حقاً التعاون الاقتصادي الإقليمي مطلوب، أم أن الاندماج في الاقتصاد العالمي كاف، وبالتالي فانه لا محل – مع اتجاهات العولمة والانفتاح على العالم – لتعاون إقليمي؟ وهل التكامل الإقليمي خطوة أم على العكس عقبة أمام الانفتاح على الاقتصاد العالمي؟ أو بعبارة أخرى هي الإقليمية مكملة أم معرقلة للعالمية؟ وإذا كانت الإجابة بأن الإقليمية خطوة مدعمة للتعامل مع الاقتصاد العالمي ولها فوائدها للدول المتجاورة، فلماذا لم تتحقق رغم ما فيها من فوائد؟ هذه أسئلة تحتاج إلي إجابات، أو على الأقل، إلي عناصر للإجابة.

يعتبر مؤلف جاكوب فاينر عن “الاتحادات الجمركية”)[4]( هو الأساس النظري لقضايا الاتحادات الإقليمية. ويميز فاينر في تحديد الدلالة الاقتصادية لمثل هذه الاتحادات الإقليمية وما توفره من تفضيلات على اتجاه التخصص والتجارة، فيميز بين ما يطلق عليه أثر إنشاء أو خلق التجارة Trade Creation Effect واثر تحويل التجارة Trade Diversion Effect. في الحالة الأولى تؤدى المزايا والتفضيلات الإقليمية إلي خلق فرص جديدة للإنتاج، وبالتالي للتجارة، تتمتع بمزايا نسبية نتيجة اتساع السوق وزوال العقبات بين أعضاء التكتل الإقليمي. أما في الحالة الثانية فان زيادة التجارة بين أعضاء الاتحاد لا تكون نتيجة لفرص جديدة بقدر ما هي نتيجة للمعاملة التفضيلية بين دول الاتحاد على حساب التجارة الأكثر كفاءة مع بقية العالم الخارجي. وهكذا فان “الاتحاد الإقليمي” – في رأى فاينر – يزيد من الكفاءة الاقتصادية عندما يؤدى هذا الترتيب الإقليمي إلي خلق فرص جديدة للتجارة، ولا يكون كذلك إذا لم يترتب عليه سوى تحويل التجارة نتيجة لهذه الحماية والتفضيلات الإقليمية.

وقد يؤخذ على تحليل فاينر أنه من ناحية، تحليل استاتيكى، ومن ناحية أخرى “اقتصادي” Economistic بحيث لا يأخذ في الاعتبار سوى الآثار الاقتصادية بالمعنى الضيق، في حين أن الاندماج أو التكامل الإقليمي قد تكون له آثار بعيدة على شكل المؤسسات السياسية والاقتصادية والتي تؤثر بدورها على الأداء الاقتصادي في المدة الطويلة. ففي حالة الوحدة الأوروبية مثلاً لم تقتصر أهم نتائج التعاون الاقتصادي الإقليمي بين دول المجموعة الأوروبية على المؤشرات الاقتصادية وحدها بقدر ما برزت في حماية التقاليد الأوروبية في نتائج اقتصادية مباشرة نتيجة لتوافر سوق واسعة.

وإذا نظرنا إلي المجموعة العربية فإننا نجد أن معظم الدول العربية لا تتمتع إلا بأسواق محلية محدودة مما يحول دون الوصول إلي الكفاءة الاقتصادية في معظم الفروع الإنتاجية الصناعية. فالصناعة الحديثة هي بطبيعتها صناعة للأسواق الكبيرة، وبالتالي فان استمرار التجزئة في الأسواق العربية يعنى حرمان المنطقة من أية صناعة واعدة. وأحد الأسباب وراء نجاح الاقتصاد الأمريكي هو سعة السوق، فهي قارة دون حواجز أو عقبات. فالحجم في ذاته هو إحدى المزايا النسبية للإنتاج وحرمان المنطقة العربية من مزايا الحجم هو حرمانها من إحدى المزايا النسبية للإنتاج المعاصر.  ولعل أخطر ما يهدد مستقبل الصناعة في المنطقة العربية هو عدم توافر سوق مناسبة، فمعظم الدول العربية دول صغيرة مبعثرة. وهكذا فان التعاون الاقتصادي العربي هو في الأساس العمل على توفير سوق اقتصادية واسعة. ولعل المنطقة العربية في هذا الصدد أقرب إلي نموذج آدم سميث للتجارة منها إلي نمـوذج ريكـاردو. فالأول كان يرى أن أساس التقدم هو توافر الأسـواق الكبيرة والتي تتيـح مزايا التخصص وتقسيم العمل وتوفير اقتصاديات النطاق Economies of Scale، في حين أن الثاني – ريكاردو – اقتصر على آثار اختلاف التكاليف النسبية بافتراض وجود سوق كافية لكل اقتصاد. وإذا أخذنا في الاعتبار مدى توافر الإمكانيات المالية، وبالتالي القدرة على الاستثمار، في معظم دول الخليج والتي تعانى من نقص وقصور الأسواق المحلية، فإننا ندرك إلي أية درجة يحول عدم توافر الحجم الاقتصادي المناسب من الاستفادة القصوى محلياً من الموارد المتاحة (الفوائض المالية). وفى نفس الوقت فإن عدداً من الدول العربية الأخرى ذات الأسواق الكبيرة نسبياً يعانى من قصور في الإمكانات المالية. وبذلك فانه يبدو أن مزيداً من التكامل الإقليمي يمكن أن يوفر فرصاً للأموال الخليجية للاستثمار الحقيقي في المنطقة العربية بدلاً من التوظيف المالي في الأسواق المالية العالمية. وقد سبق في دراسـة مستقلـة أن أوضح الكاتب مدى خطورة التوظيف المالي Financial Placement بالمقارنة بالاستثمـار الحقيقي Real Investment بالنسبـة لـدول الفائض من الخليج فيما يتعلق بحماية القيمة الحقيقية لهذه التوظيفات. فالتوظيف المالي هو توظيف في أصول مالية غالباً دون أن يترتب على ذلك بالضرورة زيادة في الاستثمارات الحقيقية، أما الاستثمار الحقيقي وهو ما يتحقق عند الاستثمار عادة في الدول النامية مما يؤدى إلي زيادة حقيقية في حجم الاستثمارات العينية على مستوى العالم. وقد أوضح التحليل المتقدم أن الاستثمارات الحقيقية هي التي تضمن حماية القيمة الفعلية بعكس التوظيف المالي الذي غالباً ما تتآكل قيمته مع مرور الزمن)[5] (. ولا يخفى أن تحقيق مثل هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق دون إجراء إصلاحات إقتصادية وتشريعية ومؤسسية في الدول العربية المستقبلة للإستثمارات بما يحقق مناخاً إستثمارياً وحماية فعّالة لحقوق المستثمرين.

كذلك لا ينبغي أن ننسى أن معظم الدول النامية تواجه الآن تحدياً نحو فتح أسواقها أمام السوق العالمية دون تمييز، الأمر الذي يفرض عليها أعباء غير قليلة للتأقلم مع هذه الأوضاع الجديدة، وهى أمور تحتاج لأن يتم ذلك على فترات معقولة وبدرجة من التدرج تسمح لصناعاتها بالاستعداد لهذه المنافسة القادمة. ولا يخفى أن الترتيبات الإقليمية بما تتضمنه من مزايا متبادلة لدول الجوار وبما يسمح بتقوية اقتصادياتها في جو من المنافسة المقبولة، أمر يساعد هذه الدول على الدخول في الترتيبات العامة على نحو أكثر قدرة وبشروط أفضل للمساومة. ويظهر الأمر بشكل واضح ومحدد في حالة الدخول في ترتيبات مع المجموعة الأوروبية التي تواجه الدول العربية منفردة بدلاً من التعامل معها كمجموعة إقليمية. وهكذا تعتبر “الإقليمية”  خطوة على مسار “العالمية”. وقد كانت هذه أي على الأحوال محصلة تجربة أوروبا. فالاندماج الاوروبى في العولمة إنما قد جاء من خلال مزيد من الاندماج الاقتصادي الاوروبى.

وأخيراً فانه مع اتجاهات العولمة وغلبة الايدولوجية الليبرالية، فان تجزئة وانفصال العلاقات بين الدول العربية يساعد على استمرار الأنماط القائمة في أشكال التنظيم السياسي والاقتصادي وبالتالي الإنعزال عن التيار العالمي السائد، في حين أن فتح الأبواب وإتاحة حرية التجارة والعمل والملكية لأبناء الأمة العربية من مختلف الأقطار من شأنه أن يساعد على إدخال الأفكار الجديدة للتحرير وتوسيع انتشارها. وبذلك فان مزيداً من التقارب والتعاون الاقتصادي العربي في إطار من الليبرالية قد يكون عاملاً مساعداً لتدعيم قوى الحرية والديمقراطية في المنطقة العربية. وسوف تتضح هذه النقطة في تحليلنا اللاحق.

ورغم هذه المنافع التي يتفق عليها الاقتصاديون فقد ظل التكامل الاقتصادي العربي دون مستوى الآمال التي عقدت عليه. ويعترف معظم الاقتصاديين بوجود عدد من العقبات المادية أو المؤسسية التي أعاقت – في وقت أو آخر – من نمو العلاقات الاقتصادية العربية على النحو المأمول به.

هناك تداخل في كثير من الأحيان بين العقبات المادية والمؤسسية. فمن بين العقبات المادية نحو نمو التجارة ضعف شبكة المواصلات من طرق وخطوط ملاحة وخدمات مرتبطة، ومع ذلك فكثيراً ما تزيد الإجراءات المتبعة من أسباب عرقلة انسياب التجارة بين الدول. فإذا كانت شبكة الطرق بين مختلف الدول غير كافية – على عكس الوضع مثلاً بالنسبة للدول الأوروبية – فان إجراءات الحدود والتخليص الجمركي كثيراً ما تزيد الأمور تعقيداً مما يؤدى إلي رفع تكلفة النقل. أضف إلي ذلك أن هناك علاقة تبادلية يختلط فيها السبب بالنتيجة في العلاقة بين نقص حجم التجارة العربية البينية ونقص خطوط الملاحة البحرية بين مختلف المواني العربية. فنتيجة لصغر حجم التجارة العربية البينية بين الدول العربية لا توجد خطوط ملاحية كافية ودائمة وبالتالي ترتفع تكلفة النقل بين هذه الدول. وبالمقابل، فانه نظراً لعدم توافر الخدمات الملاحية بشكل كاف، فان فرصاً للتجارة تضيع. وهكذا، تتداخل الأسباب  مع النتائج، وتصبح هذه العقبة سبباً لنقص التجارة ونتيجة في نفس الوقت.

وبالإضافة إلي هذه العقبات المادية، كانت هناك عقبات سياسية ومؤسسية، وخاصة في الستينات عندما انقسم العالم العربي إلي معسكرين، معسكر الدول “التقدمية” أو الاشتراكية من ناحية، ومعسكر الدول “الرجعية” أو الرأسمالية من ناحية أخرى. وبصرف النظر عن دقة الأوصاف، فقد عكس هذا الانقسام السياسي والايدولوجى قطعية كبيرة في العلاقات الاقتصادية لأسباب سياسية وايدولوجية. ورغم أن هذه الأوضاع قد تلاشت إلي بعيد منذ السبعينات، فان آثار هذه الفترة مازالت قائمة في الأذهان بدرجات متفاوتة. فمن ناحية مازالت هناك “ذكريات” الشكوك والريبة المتبادلة، وهناك أيضاً مؤسسات نشأت في ظل هذه الأوضاع، وبالتالي استمرت في ممارسات قديمة حيث يصعب تغييرها بين ليلة وضحاها.

على أن الأمر لابد وأن يكون أعمق مما تقدم فهذه العقبات أو معظمها، لا يعدو أن تكون أموراً وقتية ما تلبث أن تزول. وبالفعل فان العديد من هذه العقبات – مادية ومؤسسية – قد تلاشت أو تضاءلت إلي حد بعيد خلال الثلاثين سنة الماضية، ولم تزل حال التكامل الاقتصادي العربي على ما هي عليه. فمنذ السبعينات وقد بدأ التناقض الايدولوجى في الزوال، واتجهت معظم الدول العربية إلي الأخذ بشكل أو آخر من أشكال اقتصاد السوق والدعوة اليه. كذلك فان الاستثمارات في البنية الأساسية، من حيث شبكة المواصلات وسعة المواني وحجم خطوط الطيران قد زادت بدرجة كبيرة. ومع ذلك فان ذلك لم ينعكس في شكل تغيير ملحوظ في حجم العلاقات الاقتصادية العربية، ومن ثم فلابد من البحث عن أسباب أكثر عمقاً وراء هذه الظاهرة.

ويمكن القول بأن تضاؤل النتائج المتحققة في ميدان التعاون الاقتصادي العربي يطرح قضية منطقية بالنسبة لمدى عقلانية العمل العربي. وهل يعمل “النظام العربي” لمصلحته أم ضد مصلحته؟

فإذا كان التحليل المشار اليه آنفاً صحيحاً وان مزيداً من الاندماج الاقتصادي الإقليمي (العربي) نافع ومفيد، فان السؤال يطرح نفسه، لماذا إذن لم يتحقق هذا التقارب الاقتصادي العربي، ولماذا ظل شعاراً للمناسبات أكثر منه حقيقة على أرض الواقع؟ هل معنى ذلك انعدام في الرشادة الاقتصادية، بحيث يتجاهل المسؤولون العرب مصالحهم ويتخذون مسارات ضد هذه المصلحة؟ ويتضمن طرح الموضوع بهذا الشكل عدة أمور يصعب التوفيق بينها؛ وهى أن:

1.          هناك مصلحة اقتصادية في مزيد من التعاون والاندماج الاقتصادي بين الدول العربية.

2.    رغم الاعتراف بهذه المصلحة، فان هذا التعاون لا يتحقق على أرض الواقع بدرجة كافية رغم التغني بمزايا الوحدة عبر نصف قرن من الزمان.

3.    أخيراً يصعب أن ننسب إلي المسؤولين في الدول العربية عدم رشادة السلوك أو انعدام المنطق في سياساتهم. فالمسؤولون السياسيون في معظم الدول العربية – رغم ما قد يبدو أحياناً – يتصرفون عادة بدرجة كبيرة من الرشادة والدهاء السياسي ولا ينقصهم المنطق السليم في الاستقرار والاستمرار السياسي. فكيف تفوتهم هذه الحنكة السياسية عندما يتعلق الأمر بالمصالح الاقتصادية؟ هذه هي المعضلة. كيف يمكن التوفيق بين هذه المقولات الثلاث المشار إليها، كيف تكون رشيداً ومنطقياً في سلوكك السياسي بشكل عام، ولا تعمل في نفس الوقت على تحقيق أوضاع تزيد من “المنفعة الاقتصادية العامة”؟

لعّل الإجابة على هذه التناقض تكمن في معنى “المنفعة الاقتصادية العامة”، ومدى ما تتضمنه من تكاليف، الأمر الذي يتطلب التذكير بفكرة “السلعة العامة”.

التكامل الاقتصادي “سلعة عامة”:

يعرف الاقتصاديون “السلعة” بأنها كل شئ نافع من ناحية وأن توفيرها يتطلب تكلفة أو تضحية من ناحية أخرى. فالسلعة يجب أن تكون نافعة ولكنها أيضاً ليست مجانية. فليس كل شئ نافع سلعة. فالهواء وهو أنفع الأشياء لا يعتبر سلعة لأنه لا يكلف شيئاً * . والأصل أن العلاقة المنفعة والتكلفة تحدد ما ينتج من سلع، فطالما أن المنافع تزيد على التكاليف، فان المجتمعات تتجه إلي توفير هذه السلع حيث أن ما تحققه من ورائها من منافع يزيد على ما تتحمله من تكاليف وأعباء. وتقوم عادة السوق بتوفير هذه السلع. ولكن هذا الأمر لا يتحقق دائماً حيث أن هناك من السلع التي لا شك في منافعها والتي تزيد فيه هذه المنافع على تكاليفها، ورغم ذلك فإنها لا تتوافر تلقائياً في السوق. وهذا يقتضي التفرقة بين ما يعرف بـ”السلع الخاصة” private goods و”السلع العامة” public goods.

ويشترك النوعان في أن توفيرهما يتطلب تكاليف وأعباء، وبالتالي فإنها ليست منحاً مجانية، ولكنهما يختلفان في نوع المنفعة التي تترتب عليهما ومدى إمكان الاستئثار أو شيوع الانتفاع بها. أما التكاليف فلابد وأن يتحملها أفراد أو مؤسسات بعينها. وما لم يكن هؤلاء الأفراد والمؤسسات على استعداد لتحمل تكاليف إنتاج السلعة، فانه لا يمكن توفيرها مما بلغت منافعها. ولذلك فان توفير أي سلعة إنما هو رهن بمدى توافر الاستعداد لتحمل تكاليف وأعباء توفيرها، فإذا لم يوجد هذا الاستعداد فلن تنتج هذه السلع وإن طال الحديث عن أهميتها. وبطبيعة الأحوال فان الاستعداد الاختياري لتحمل تكاليف وأعباء توفير السلعة، إنما يرتبط بمدى تقدير المنفعة العائدة من هذه السلعة ومقارنة هذه المنفعة بالتكاليف المطلوبة. والعبرة هنا هو بالمنفعة والتكلفة العائدة لمن يتحمل التكلفة، أما ما يعود على الغير فانه لا يدخل في الحساب. ولذلك فمن الضروري أن تكون هذه المنافع قابلة للاستئثار وليست شائعة. وهنا نجد أن السلع تختلف فيما بينها من حيث شيوع أو استئثار المنافع المترتبة عليهـا. وهـذا هو أسـاس التفرقة بين ” السلع الخاصة ” و” السلع العامة “. فالأولـى تعـرف مبدأ الاستئثار principle of exclusion بمعنـى أن المستخـدم للسلعة يفيد منها – بشكل عام – وحده دون مشاركة الآخرين، وبالتالي فانه يكون عادة على استعداد لتحمل تكاليفها. وتنجح السوق بالتالي في توفيرها. أما “السلع العامة” فان منافعها تكون عادة شائعة، فمتى أديت لفرد فان الغير يمكن أن يفيد منها بلا تكلفة، الأمر المعروف في أدبيات الاقتصاد بـ”الراكب المجاني” free rider. ومن هنا فان السلع العامة تثير عادة مشكلة كبرى في توفيرها. فهي ليست أقل أهمية أو فائدة من “السلع الخاصة”، بل قد تكون أكثر أهمية، مثل توفير الأمن والاستقرار والعدالة ونظام نقدي مستقر ومرافق عامة – ومع ذلك فالغالب ألا يتقدم أحد، اختياراً، لتحمل تكاليف توفيرها اعتماداً على فكرة الراكب المجاني. فلماذا يتقدم أي فرد لتحمل أعباء إنتاجها أو توفيرها مع علمه أن توفيرها سيفيد الآخرين دون تكلفة (الراكب المجاني)؟  وكل فرد يفضل الانتظار لكي يتقدم غيره بتحمل تكلفة السلعة ويفيد منها هو باعتباره “راكباً مجانياً”. ولذلك فرغم إدراك كل فرد بأهمية السلع والخدمات العامة، فعادة لا يمكن توفيرها اختيارياً، والأصل أن تتوافر عن طريق تدخل وقهر السلطة، التي تقتطع الضرائب جبراً من الأفراد وتوفر الخدمات العامة بحصيلة هذه الضرائب أو عن طريق نوع من التوافق العام كما في العديد من الأعمال الخيرية. ومن هنا فانه رغم الاعتراف بأهمية وضرورة السلع العامة، تقوم دائماً مشكلة مدى توفير هذه السلع. وتختلف المجتمعات في مدى قدرتها على توفير مثل هذه الخدمات وفقاً لمدى توافر نظم سياسية واجتماعية قادرة على اقتطاع الموارد جبراً أو اتفاقاً وتخصيص هذه الموارد لتوفير هذه السلع العامة وتوزيعها على الأولويات المختلفة. وكثيراً ما تفشل المجتمعات في توفير هذه السلع أو توفيرها بشكل مناسب نتيجة لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي ومدى قدرته على استخدام القهر المشروع أو التوافق العام لتوفير هذه السلع والخدمات العامة. ومن هنا فإننا لا نجد أي تناقض أو عدم رشادة في التأكيد على أهمية ومنفعة سلعة أو خدمة من ناحية وعدم إمكان توفيرها من ناحية أخرى. فالاعتراف بمنفعة السلعة أو الخدمة لا يعنى، منطقياً قبول تحمل أعباء وتكاليف إنتاجها وتوفيرها. فقد تتركز التكاليف والأعباء على فئة في حين أن المنفعة تكون شائعة وموزعة على آخرين. وبالتالي نكون بصدد سلعة أو خدمة عامة بحيث لا يكون أحد مستعداً لتحمل أعباء توفيرها)[6] (. ولذلك فانه من المتفق عليه أن السلع والخدمات العامة لا يمكن توفيرها اختياراً – رغم أهميتها – وأنه لابد من تدخل سلطة عليا أو الوصول إلي اتفاق بين المتعاملين على كيفية توفيرها وتوزيع أعباء إنتاجها عليهم.

وفيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده، فإننا نعتقد أن التعاون أو الاندماج الاقتصادي العربي هو نوع من السلعة أو الخدمة العامة الإقليمية التي تعود بالنفع على الجميع، ولكن هذا النفع شائع متى تحقق أفاد منه الجميع ولا يمكن حرمان أحد منه. وعندما نتحدث عن الجميع فإننا نشير إلي الأفراد والمشروعات سواء منها القائمة أو المحتملة الإنشاء، وسواء منها الوطني أو الأجنبي – فالجميع يشمل كافة الوحدات الاقتصادية في الحاضر والمستقبل التي تتعامل مع الاقتصاد. وبالمقابل فان توفير هذه السلعة أو الخدمة ليس أمراً مجانياً، بل يترتب عليه أعباء وتكاليف. وإذا كانت منافع التعاون الاقتصادي تعود على الجميع بهذا المعنى، فان القرار في شأنها هو من شأن السلطات السياسية التي تضع القيود على سيادتها ومدى الحواجز بين الصناعات القائمة بها وبين الخارج. ففى حالة التعاون الاقتصادي العربي، فإننا نجد أنفسنا بصدد وضع لدول مستقلة عليها أن تقدر المنافع والأعباء التي تعود عليها – كدول أو نظم سياسية – من هذا التعاون وما يترتب على ذلك من تأثير على نشاطها الاقتصادي. فإذا كانت الأعباء التي تفرض على هذه الدول – كنظم سياسية أو قطاعات اقتصادية – تجاوز المنافع التي تعود عليها مباشرة فلا أمل في أن تقبل مثل هذا التعاون. ولا يتناقض هذا السلوك إطلاقاً مع الرشادة الاقتصادية، بل أنه يعتبر انصياعاً لها.  فليست الرشادة هي في المقارنة بين المنافع الإجمالية والتكاليف الإجمالية، وإنما هي في المقارنة بين المنافع العائدة إلي متخذ القرار السياسي بالتكامل الاقتصادي والتكاليف التي يتحملها، أما ماعدا ذلك فانه لا يعدو أن يكون من العناصر الخارجية externalities التي لا تدخل في حسابه. فنقطة البدء في المناقشة قضية التعاون الاقتصادي العربي، هي أنها قضية تعنى بالعلاقة بين قرارات سياسية – تتخذ لإزالة العقبات أمام التكامل الاقتصادي وان المنطق وراءها هو مدى ما يتحقق لمتخذي هذه القرارات من منافع أو تكاليف تعود عليها مباشرة نتيجة لمثل هذه القرارات.

بدأ الحديث عن التعاون الاقتصادي العربي – كما ذكرنا – منذ إنشاء الجامعة العربية بعد الحرب العالمية الثانية وارتفعت النبرة خلال فترة الخمسينات والستينات فيما عرف بحركة القومية العربية. وهكذا فان الدعوة إلي التعاون – أو الاندماج الاقتصادي – ارتبطت في الأساس بدعوة سياسية قومية. وتستند هذه الدعوة إلي وحدة الأمة العربية، وإن الحدود السياسية إنما هي حدود اصطناعية فرضها الاستعمار ومن ثم وجب إزالتها. فالأقطار العربية القائمة ينبغي أن تزول لتتحقق الوحدة العربية السياسية. وهكذا جاءت الدعوة للتعاون الاقتصادي العربي في بدايتها وتحمل في طياتها – بشكل غير صريح ولكنه غير خفي – تساؤلات عن مدى شرعية الحدود السياسية ووجود الأقطار العربية نفسها. وقد عاصر هذه الفترة شيوع نظم حكم عربية ذات طابع عسكري وانقلابي مما ساعد على تأكيد هذه الهواجس والمخاوف. وهكذا بدا كما لو كان ثمن التعاون الاقتصادي العربي هو تهديد نظم الحكم والأوضاع الاقتصادية القائمة في العديد من البلدان. وهى تكلفة عالية لا يقبل أحد بتحملها حتى وإن كانت المنافع المقابلة هي اتساع السوق وزيادة الازدهار الاقتصادي، وهى منافع شائعة تعود على الجميع بلا تحديد. ومع بروز الثروة النفطية، وخاصة في السبعينات، ظهر تناقض أكبر بين الثروة المالية الجديدة وبين دعوة الوحدة العربية أو الثورة العربية. فالتعاون الاقتصادي العربي بدا – بشكل ما – كما لو كان دعوة للمشاركة في هذه الثروة الجديدة الوافدة، الأمر الذي أوجد حساسية لدى قطاعات واسعة من مواطني الدول الخليجية. وبذلك فقد تضمنت الدعوة إلي التعاون الاقتصادي العربي – منذ البداية – تهديداً للنظم السياسية القائمة وللهياكل الاقتصادية السائدة. وقد يبدو غريباً – ولكنها الحقيقة – أن تتناقض الدعوة إلي القومية العربية – في صورتها القائمة آنذاك – مع متطلبات التعاون الاقتصادي العربي، حيث بدت تلك الدعوة كما لو كانت تمثل تهديداً للنظم السياسية القائمة في العديد من البلدان العربية. وهكذا فقد ولدت الدعوة للتعاون الاقتصادي في إطار مع الدعوة القومية للوحدة السياسية وإزالة الدولة القطرية، وهو ما يمثل ثمناً باهظاً لعديد من النظم السياسية، وبالتالي وجب منطقياً عدم الحماس له.

ولا يقتصر الثمن السياسي للتعاون الاقتصادي العربي – آنذاك – فيما بد من تهديدات لاستقرار العديد من النظم السياسية، بل أنه حتى مع اختفاء مثل هذا التهديد وخاصة بعد أن بدأت مرحلة التعايش بين النظم المختلفة بعد حرب 67، فان هذا التعاون كان يتضمن – بشكل ما – تقييداً لسلطات النظم السياسية القائمة في العديد من البلدان العربية. فالحاكم في معظم البلدان العربية – آنذاك – وأيا كان لقبه – ملكاً أو أميراً، أو رئيساً، أو قائداً – هو عادة حاكم مطلق لا تكاد تحد إرادته أية قيود، وهو يتمتع بهذه السلطات تجاه أبناء شعبه حيث لا سلطة تعارضه. ولاشك أن فتح الأبواب للأبناء الدول الشقيقة – ووراء كل منهم حكومته – من شأنه أن يقيد من سلطات الحاكم إزاء بعض الضغوط من الدول الشقيقة حماية لمصالح أبناءها، الأمر الذي يتضمن تضيقاً لسلطات الحاكم. ومن نفس المنطلق وجدنا أن العديد من النظم العربية قد قاومت – خلال التسعينات – إجراءات الإصلاح والتحرير الاقتصادي الداخلي، لأنها تضمنت – في التحليل الأخير – تقليصاً لسلطات الحكومات المركزية في الشؤون الاقتصادية. فالتحرير الاقتصادي يعنى وضع بعض الحدود على سلطات الحكومات المركزية بما يتيحه من حرية حركة للقطاع الخاص. وليس بعيداً عن ذلك حال التعاون الاقتصادي العربي، ذلك أن مزيداً من التعاون الاقتصادي مع أبناء الدول الشقيقة يضع حدوداً مماثلة على سلطات الحكومات المركزية بما يفرضه عليها من مراعاة احتياجات الدول الشقيقة وضغوطها. فالنظم المطلقة تتمتع بسلطات واسعة إزاء مواطنيها، وليس الأمر كذلك بالنسبة لمواطني الدول الأخرى – بمن فيهم مواطني الدول الشقيقة. وهكذا فان فتح باب النشاط الاقتصادي لمواطني الدول الشقيقة لا يخلو من فرض بعض القيود على حرية هذه النظم. ولذلك فان فتح الباب لغير مواطني البلد يتضمن عادة ثمناً سياسياً لتلك النظم حيث لا تستطيع أن تباشر نفس السلطات على غير مواطنيها.

وإذا كانت الدعوة إلي التكامل الاقتصادي العربي قد صاحبها – وخاصة في بدايتها – مخاوف من تحمل تكاليف وأعباء سياسية للنظم السياسية القائمة – فان الأمر لم يخل أيضاً من تكاليف وأعباء اقتصادية يمكن أن تتحملها بعض القطاعات الصناعية التي تتمتع بحماية لا ترغب في التخلي عنها.

فالصناعة في معظم الدول العربية قد قامت على أساس إحلال الواردات ووجود سوق محلية تحظى بحماية جمركية عالية نسبياً. ولذلك فان هذه الصناعات ترى بشكل عام في تحرير التجارة مع العالم الخارجي أو من خلال تعاون إقليمي أضعافاً لمركزها التنافسي في الداخل، وبالتالي مهددة لأرباحها. وهكذا فان مثل هذه الصناعات تعبر عادة عن نوع من المقاومة لأية إجراءات يترتب عليها أضعاف ما تتمتع به من حماية للسوق المحلى. ومن هنا موقفها المناوىء في كثير من الأحيان لإجراءات التعاون الاقتصادي الإقليمي فيما يتضمنه من تخفيف أو إزالة ما تتمتع به هذه الصناعات من مركز متميز في أسواقها المحلية.

والتعاون الاقتصادي الإقليمي، شأنه شأن كل قرار اقتصادي، يؤدي إلى منافع وأضرار، عوائد وأعباء. فهناك المستفيدون منه. كما أن هناك أيضاً المتضررين، والعبرة في النهاية هي بالمقارنة بين حجم ووزن المنافع من ناحية وحجم ووزن الأضرار من ناحية أخرى. ومع ذلك فإن الأمر ليس متعلقاً فقط بالحجم المطلق لكل منهما، بل كثيراً ما يتعلق بالصوت العالي Voice. فهناك بعض المصالح القادرة على التعبير عن نفسها بقوة رغم أنها قد لا تكون كبيرة، في حين أن مصالح أخرى كبيرة قد لا تنجح في التعبير عن نفسها بنفس القوة رغم أهميتها. ويعتبر المثال السابق عن موقف بعض الصناعات الوطنية من تحرير التجارة بالمقارنة بموقف جمهور المستهلكين منه نموذجاً واضحاً للعلاقة بين الصوت العالي وحجم المصالح.

فإذا كان تحرير التجارة يضعف من الوضع التنافسي – أو الاحتكاري – لعدد من الصناعات الوطنية، فانه يوفر للمستهلكين في نفس الوقت فائدة كبيرة في إتاحة السلع بأسعار أقل وربما بنوعية أفضل. وهكذا نجد تقابلا بين ما قد يلحق بعض الصناعات من خسارة، وبين ما قد يحققه المستهلكين من كسب كنتيجة لتحرير التجارة أو للتعاون الاقتصادي الإقليمي. وقد يكون الكسب المتحقق أكبر من الخسارة الواقعة، ولكن الغالب هو أن صوت الصناعيين يكون عادة أعلى وأقوى من صوت المستهلكين. ولذلك أسباب. ونشير في هذا الصدد إلي أمرين. الأمر الأول التفرقة بين الخسارة “المحققة” “realized loss” وبين الكسـب “الضائع” “foregone benefit” فهنـا نقارن بين شركة تحقق بالفعل خسارة أو نقصاً في الأرباح، وبذلك فإنها تتحدث عن أشياء تحققت بالفعل بالمقارنة بالماضي، وهى أمور يمكن قياسها، وبالتالي فان الشعور بها يكون عادة قوياً. أما الكسب المحتمل، أو المتوقع، فهو إشارة إلي “أمل” لم يتحقق في أي وقت في الماضي، وإنما هو تطلع إلي المستقبل. ولذلك فان المطالبة به تكون أقل حدة مما هو الحال في الدفاع عن الخسائر المتحققة. هذا عن الأمر الأول الذي يؤدى إلي رفع أصوات المقاومة أعلى من أصوات التأييد. أما الأمر الثاني فهو يرجع إلي تركز أو تفرق أصحاب المطالبات. فبالنسبة لأصوات الصناعة المطالبة بإبقاء الحماية فان عدد الصناعات يكون عادة محدوداً ولذلك فان حجم الخسارة التي تلحق بكل منهم تكون عادة كبيرة تبرر المطالبة بالصوت العالي فضلاً عن أنهم لقلة عددهم يكونون عادة قادرين على تنظيم مقاومتهم بشكل فعال. أما أصحاب المصلحة في خفض أسعار السلع المتاحة وتحسين نوعيتها فانهم من جمهور المستهلكين، وهم أعداد كبيرة متفرقة كل منهم قد يحقق كسباً صغيراً. ورغم أن مجموع المكاسب قد يكون كبيراً بل وكبيراً جداً، فإن أصوات المطالبة بالتحرير قد لا تكون عالية. فهم لتفرقهم وتشتتهم غير قادرين على التنظيم وبالتالي الفاعلية. وهم أيضاً بالنظر إلي تشتتهم فان النفع العائد على كل منهم يكون عادة قليلاً لا يبرر الـتعبئة الكبيرة لهذه القضية. ومن هنا كثيراً ما نجد أن مصالح الأقليات تجد آذان صاغية أكثر من مصالح الأغلبية، لأنه الأغلبية بطبيعتها كسولة وغير منظمة. وينطبق هذا المنطق بالنسبة للمقاومين والمؤيدين لإجراءات تحرير التجارة. فالمقاومة تأتى عادة من أقلية نشطة ذات مصالح كبيرة ومركزة، في حين أن التأييد لا يظهر بنفس القوة لعدم تركز هذه المصالح وتشتتها بين أعداد كبيرة قليلة الاهتمام.

وما تقدم لا يحول دون الإعتراف بأن هناك إعتراضات تمثل معارضة مشروعة  للحماية من المنافسة “غير العادلة” من الدول الشقيقة. فمنتجات بعض الدول تتمتع بميزة تنافسية تجاه أسعار الدول الأخرى الشقيقة المنافسة ليس بسبب كفاءة إنتاجية وإنما بسبب مزايا تتمتع بها في دولها في شكل إعانات صريحة أو ضمنية. وقد اعترفت اتفاقات منظمة التجارة العالمية بحق الدول المنضمة إلي الاتفاقية باتخاذ إجراءات لمواجهة “الإغراق” أو الإعانات لحماية الصناعة المحلية في مواجهة منافسة الدول الأخرى. ولا شك أن نوعاً من هذه الإجراءات لابد وأن يراعى في تحرير التجارة ضمن أشكال التعاون الاقتصادي العربي. ولذلك فقد يكون من الواقعية الاعتراف بمشروعية جزء من هذه المخاطر التي تتعرض لها بعض القطاعات من جراء فتح الأبواب بين الدول العربية، والعمل على وضع آلية “لتعويضها” عن هذه المخاطر.

ومن هنا فقد يكون من المناسب أن تتضمن برامج التكامل الاقتصادي الاتفاق على تخصيص ميزانية وموارد مالية مناسبة لتعويض الأطراف المتضررة من زيادة حجم التكامل الاقتصادي العربي، والعمل في نفس الوقت على الإزالة التدريجية لأسباب هذه الأضرار. وقد عملت السوق الأوروبية منذ البداية على الاعتراف بأن بعض القطاعات – وخاصة في الزراعة في بعض الدول مثل فرنسا – يمكن أن تضار أكثر من غيرها من مزيد من التكامل الاقتصادي الاوروبى، فكفلت اتفاقات التعاون الاقتصادي الاوروبى توفير آلية لتعويض هذه القطاعات. ومن هنا ينبغي النظر إلي التكامل الاقتصادي العربي باعتباره مشروعاً اقتصادياً له منافع كما أن له تكاليف، وهذه وتلك لها نتائج مالية يجب أن تتحملها الدول. فبالتكامل الاقتصادي العربي، مثل أي مشروع هام ولكنه ليس هبة بلا تكلفة، ولكن فوائده أكبر.

الخلاصـــة:

إذا كان التحليل السابق صحيحاً، فان معنى ذلك أن التعاون الاقتصادي العربي لم يتحقق في الواقع رغم ما بدا من منافعه لأن هناك أسباباً منطقية  تبرر تجاهل هذه المنافع الاقتصادية حيث أن هناك تكاليف وأعباء أكثر أهمية وخطورة من هذه المنافع بالنسبة لمتخذي القرار، وهو عادة قرار ذو طابع سياسي حيث يتعلق بعلاقة الدولة بالخارج ومدى حدود سلطاتها وسيادتها.

هناك أولاً مجموعة من العقبات الراجعة لقصور أو نقص في البنية الأساسية المادية مثل المواني وخطوط الملاحة والطرق والسكك الحديدية. ولكن هناك عقبات أشد قسوة في البنية الأساسية المؤسسية مثل إجراءات التخليص الجمركي والعبور عبر الحدود، وأحياناً نظم التحويلات النقدية والمصرفية، وضعف التسويق وتوافر المعلومات عن مصادر التوريد واحتياجات الأسواق. والقائمة طويلة. وينبغي الاعتراف أن هناك تحسناً في هذا الميدان، وفى جميع الأحوال فان هذه الأنواع من القصور والنقص تؤثر في قدرة الدولة التصديرية سواء في إطار التعاون الاقتصادي العربي أو في التعامل مع العالم الخارجي بوجه عام.

ولكن إلي جانب هذه العقبات المادية والمؤسسية، فهناك أسباب سياسية)[7] ( – موروثة أو قائمة – تجعل التكلفة السياسية أو الاقتصادية لمتخذي قرارات إزالة الحواجز أكثر من العائد الاقتصادي المباشر  عليهم، رغم أن المنافع الاقتصادية الإجمالية العائدة على المجتمع قد تكون أكبر من هذه التكلفة المباشرة. وقد بينا أنه في وقت من الأوقات حملت الدعوة إلي التكامل الاقتصادي تشكيكاً في وجود الدولة القطرية أو كانت محملة برسائل سياسية مناهضة أو مهددة للنظم القائمة، وبالتالي فقد كانت هناك تكلفة سياسية تجاوز أية منافع اقتصادية عامة. ورغم أن الظروف قد تغيرت، فلازال هذا الموروث التاريخي يلعب دوراً غير محسوس. كذلك فان مزيداً من الانفتاح الاقتصادي، وخاصة لعناصر غير محلية، من شأنه أن يضعف سلطات الحاكم شبه المطلقة في معظم الدول العربية. ومن هنا رأينا أن الاتجاه في عديد من الدول العربية نحو الإصلاح الاقتصادي وفتح الباب للقطاع الخاص كان متردداً بالنظر إلي ما يترتب على اتساع دور القطاع الخاص من وضع القيود على حرية حركة السلطة السياسية التي تعودت في كثير من الدول العربية، على الإمساك بكافة خيوط السلطة سياسية كانت أو اقتصادية. وإذا كانت بعض هذه الدول قد اضطرت إلي توسيع دور القطاع الخاص تحت ضغط الأعباء الاقتصادية المتزايدة – الديون الخارجية – وبتأثير المؤسسات الدولية، فلازال القطاع الخاص المحلى أكثر ليونة وإنصياع من القطاع الخاص الخارجي، ولذلك فإن القطاع الخاص المحلي يكون عادة أكثر قبولآً لأشكال الحكم المطلق من القطاع الخاص الخارجي. ولكل ذلك فان منطق التعاون الاقتصادي الإقليمي لا يزدهر إلا في إطار من الديمقراطية. فالنظم الديمقراطية ليست – بطبيعتها – عدائية أو تآمرية، فضلاً عن أنها بتداول السلطة، فإنها لا تسمح بقيام السلطة المطلقة للحكومات والتي تقاوم أية مشاركة في هذه السلطة، سواء من الداخل أو من الخارج. وقد يكون من المفيد هنا أن نتذكر أن من أسباب نجاح التعاون الاقتصادي الاوروبى، هو أن القائمين على إنشاء السوق الأوروبية المشتركة قد عمدوا منذ البداية في اتفاقية روما بإنشاء السوق عام 1957 على التأكيد على أن المشاركة في عضوية هذه السوق سوف يقتصر فقط على الدول الأوروبية التي تمارس الديمقراطية وتشترك في المبادئ والقيم العامة لاحترام حقوق الانسان. فمع شيوع الديمقراطية واحترام حقوق الانسان تتضاءل إلي حد بعيد المزايا السياسية للاستئثار بالحكم والسيطرة على جميع المقررات السياسية والاقتصادية للبلاد. وبذلك لا ترى السلطة السياسية القائمة في زيادة التعاون الاقتصادي الإقليمي إقتئاتاً أو انتفاصاً لسلطتها السياسية. وعلى العكس فان هذه الحكومات الديمقراطية ترى – مع التأكد الشعبي لجهود الوحدة – أن الإسراع بإجراءات التكامل الاقتصادي مع شركائهم مما يدعم التأييد الشعبي لهم وبالتالي يزيد من سلطتهم السياسية. ففى أوروبا الديمقراطية، كان الإسراع في خطوات التكامل الاقتصادي تدعيماً سياسياً للحكومات القائمة بزيادة التأييد الشعبي لهم. وليس الأمر كذلك في الدول غير الديمقراطية، حيث تتحدد سلطات المحاكم بحجم ما يجده تحت تصرفه من سلطات سياسية أو اقتصادية، وليس بالضرورة بما يجده من تأييد شعبي.

ولكن التكاليف التي تترتب على مزيد التكامل الاقتصادي لا تقتصر على ما تقدم، فهناك أيضاً تكاليف اقتصادية لعدد من القطاعات الاقتصادية التي تعودت على العمل في إطار من الحماية الجمركية. وقد أشرنا إلى أنه رغم أن هذه التكاليف والأعباء تتعلق عادة بأقلية، فإن صوتها يكون عالياً وتأثيرها على متخذي القرار السياسي يكون – عادة – أوضح أثراً بالنظر إلي سهولة العمل المنظم من خلال الأقلية بعكس الأغلبية المبعثرة، فضلاً أن هذه المصالح – نظراً لتركزها في عدد قليل – تكون عادة مصالح هامة تؤدى إلي ظهور مقاومة شديدة وفعالة.

وأخيراً فقد أشرنا إلي أن المطالبة بنوع من الحماية من منافسة الإنتاج في الدول الأخرى لا ترجع دائماً إلي الأوضاع الاحتكارية أو شبه الاحتكارية التي تتمتع بها بعض الصناعات، بل تكون في كثير من الأحيان مبررة نظراً لما تتمتع به من الصناعات في الدول العربية من أنواع من الدعم الظاهر أو الخفي الذي يشوه من حقيقة المنافسة. ومن هنا فان العلاج يتطلب الاعتراف بهذه الأمور وإيجاد آلية لمعالجة هذه المطالب المشروعة. وقد يكون من المفيد في هذا الصدد ألا تقتصر جهود العمل على التكامل الاقتصادي العربي على المطالبة بإزالة الحواجز، وإنما الاعتراف بأن التعاون أو التكامل الاقتصادي العربي هو مشروع له تكلفة كما أن له منافع، وبالتالي ضرورة توفير “ميزانية عربية” لهذا المشروع، لتعويض المتضررين من هذا المشروع. وبدون الاعتراف بهذه التكلفة ومحاولة تعويضهم عنها، فسنظل نتكلم عن مزايا التعاون الاقتصادي في المنتديات والمؤتمرات، ولن يمنع ذلك المتضررين منها من العمل على وقفها في هدوء وبلا جلبه والله أعلم.

لفصل الأول: فكرة الوحدة العربية

 

المبحث الأول: نشأة الفكرة

كانت فكرة توحيد الدول العربية قد قامت في أول مرة بتشجيع من الحكومات الفرنسية و البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، لكونهم يسعون إلى الحصول على حلفاء لهم في حربهم ضد ألمانيا، لكن عند انتهاء الحرب تخل الأوروبيون عن التزامهم تجاه العرب و تم تقسيم معظم الدول العربية بين بريطانيا العظمى و فرنسا.

و قد تم تداول قضية التوحيد مرة أخرى في الأربعينيات من القرن الماضي من قبل منظمة حركة القوميين العرب (التي هي حركة قومية عربية اشتراكية معارضة لدولة إسرائيل)، و في نفس الوقت ظهرت فكرة جمال عبد الناصر الداعية إلى التوحيد العربي.

اندلعت ثورة عربية ضد الأتراك (المتمثلة في سوريا و العراق)، كان الهدف من الثورة هو استقلال العرب و إنشاء دولة عربية متحدة قوية، و قد وعدت الحكومة البريطانية العرب بالاعتراف باستقلالهم مقابل اشتراكهم في الحرب إلى جانب الحلفاء ضد الأتراك، و كانت الثورة قد بدأت في 1916، رفع من خلالها العرب علم ذو أربع ألوان الأسود يمثل الدول العباسية، الأخضر الدولة الفاطمية، الأبيض الدولة الأموية، أما المثلث الأحمر فيشير إلى الثورة.

و قد جمع العلم في ألوانه الأربعة رموز الاستقلال و التاريخ العربي في كل الأزمة و استمر العلم حتى عام 1964.

و قد بدأ فعل التوحيد العربي بعد نكسة 1967 ضد إسرائيل، حيث أدت هذه النكسة إلى ذوبان الحركات التوحيدية بين العرب.

تشكل و تبلور مفهوم جديد تزامن مع تشكل فكرة القومية العربية بحيث يطرح فكرة إنشاء دولة عربية واحدة تضم كافة الأراضي العربية من المحيط إلى الخليج . ف ظهر بذلك تعريف جديد للوحدة العربية يعتبر قريبا من المشروع الأوروبي أي الدعوة للانصهار في كتلة سياسية موحدة، و ذات ثقل اقتصادي كبير، يقوم على التكامل الاقتصادي و العملة الموحدة و حرية انتقال الأفراد و البضائع بين الأقطار العربية المختلفة، بالإضافة لتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك للوصول إلى اتحاد عربي مع المحافظة على الخصوصية الثقافية للأقطار العربية كل على حدة. وقد تشكلت القومية العربية مع نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين أو عصر القوميات كما يسميه البعض، كان من رواد حركة القومية العربية مفكرون من أمثال المفكر السوري ساطع الحصري، زكي الأرسوزي، و عبد الرحمن عزام. لقد تجلت القومية العربية في أوجها بالثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين من مكة، لكن الآمال المعقودة على الحصول على دولة الوحدة كانت في وقتها مفهوما متطرفا يعني دولة الخلافة الإسلامية – تقوضت بأسرها بعد عقد فرنسا و بريطانيا اتفاقيات سايكس بيكو و التي تهدف لاقتسام إرث الإمبراطورية العثمانية.

المبحث الثاني: العوامل و الأسباب المساعدة على التوحد

– الدين الإسلامي و اللغة العربية، حيث أن كل الدول العربية يجمعها دين واحد و هو الدين الإسلامي و لغة واحدة و هي العربية.

– النصوص الدستورية حيث لا نجد دستورا عربيا لا يثير موضوع الوحدة في المادة 7 من دستور الإمارات العربية المتحدة تؤكد أنها جزء من الوطن العربي الكبير الذي توحده روابط الدين اللغة و المصير المشترك.

– البرامج الدراسية: التي فكرت لموضوع الوحدة جزءاها ما لتكوين أجيال عربية واعية مسؤوليتها أمام أمتها و أمام الإنسانية من خلال مفهومي الأمة الإسلامية الأمة العربية.

– تاريخ: و تمثلت في تعرض الدول العربية للاستعمار و تجزئة الوطن العربي.

الأسباب:

– الوحدة العربية هي السبيل الوحيد الذي يمكن العرب من فك ارتباطهم بالنظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، ذلك أن بإمكانهم في ظل دولة الوحدة استثمار أموالهم في الأقطار العربية، و تحقيق التكامل و التلاحم الاقتصادي في ما بينهم، و بهذا لا تضطر الأقطار العربية الفقيرة لرهن حريتها و سيادتها لقاء الديون التي تحصل عليها من الدول الرأسمالية المتقدم .

– في ظل الوحدة لن تكون الأقطار العربية الغنية اقتصاديا تحت رحمة تقلبات الأسواق الغربية، و سياسات أنظمتها العدوانية، و هكذا ستحسم قضية الوحدة مسألة الارتباط و التبعية للنظام الاقتصادي العالمي.

– في ظل الوحدة العربية لن يكون الرفض القومي لسياسات الغربية و قاعدته إسرائيلية سلبيا عاجزا، بل إيجابيا، و سيكون له أدواته و مقوماته المادية و الموضوعية المتمثلة في عمق الأمية. و وضع ثرواتها و إمكانياتها و مواردها مجتمعة في خدمة هذا الرفض، بما يضمن تحقيق التقدم و التطور لشعوبها.

– إن الدولة عربية بمفردها غير قادرة في ظل الوضع الاقتصادي العالمي الراهن على أن تتعامل مع الدول الرأسمالية المتقدمة بصورة متكافئة، أو أن تضغط لكي يكون التبادل معها أكثر توازنا و أقل إجحافا.

المبحث الثالث: الصعوبات التي واجهت مختلف التجارب الوحدوية

– عملية التطور الوحدوي في العالم العربي، تعلقت بإرادة الحكام و ليس بقرار المؤسسات و لعل أحد الفروق الرئيسية بين تجربة الاتحاد الأوروبي و المحاولات العربية للوحدة أن “المؤسسة” كانت هي راعية التجربة الأولى بينما كان الأفراد هم الرعاة في المحاولات العربية.

– التباين الواضح في الأيدولوجيات الحاكمة و ما يترتب عليه من تباين سياسي و إقتصادي. بعض البلدان العربية التي ما زالت تحكم بالنظم الملكية، إلى أخرى تتمتع ولو نظريا بنظم حكم جمهوري ديمقراطي

– غياب التوازن، إذ تقوم كل التجارب الوحدوية في العالم العربي بين أطراف غير متكافئة من حيث المساحة أو عدد السكان أو الثروة الاقتصادية، و يلاحظ أن الفكر القومي لم يهتم بهذه المشكلة.

– الفروقات الاقتصادية المتزايدة:

هذه الفروقات بين دول الثراء النفطي و الدول الفقيرة و المكتظة بالسكان. السودان كمثال.

– خلافات الفصائل القومية، حيث دخلت هذه الظاهرة إلى حيز الواقع السياسي العربي في إطار تجربة الوحدة بين مصر و سوريا، حين بدأ الخلاف يدب بين جمال عبد الناصر و حزب “البعث” حول إدارة دولة الوحدة، و قد لعب هذا الخلاف دوره في إخفاق التجربة.

– النزعات المحلية:

أهمها إعتقاد البعض أن الدول العربية الكبرى ستبتلع الدول الصغرى و سيكون نفوذها الكلي أكبر من تلك الدول مما يهدد حقوقها

– المؤثرات الخارجية، حيث يسرف الفكر القومي أحيانا في رد الإخفاقات إلى العوامل الخارجية و المؤامرات الدولية، و لكن رغم معاداة البيئة الخارجية للوحدة المصرية – السورية فإن الحقيقة هي “أن العوامل الأصلية في اختلاف محاولات الوحدة العربية هي عوامل ذاتية، أي عربية”.

الفصل الثاني: من العمل العربي المشترك إلى محاولات الوحدة العربية

المبحث الأول: العمل العربي المشترك

جامعة الدول العربية:

منظمة عربية دولية أنشئت في مارس 1945 (طبقا لبروتوكول الإسكندرية الموقع في 07 أكتوبر 1944) و يحتوي ميثاق الجامعة على ديباجة و 20 مادة و ثلاثة ملاحق وقع عليه سبعة ملوك و رؤساء عرب في 22 مارس 1945 و هذه الدول هي: السعودية، مصر، العراق، الأردن، سوريا، لبنان، اليمن.

كان من الممكن أن يكون اسم الجامعة العربية “التحالف العربي” كما اقترحت سوريا أو “الاتحاد العربي” حسب رغبة العراق، إلا أن مصر رأت أن اسم “الجامعة العربية” أكثر ملائمة من الناحية اللغوية و السياسية و متوافقا مع أهداف الدول العربية و في النهاية وافق الجميع على هذا الاسم بعد أن نقحوه من الجامعة العربية إلى جامعة الدول العربية.

اتسعت فيما بعد عضوية الدول العربية و أصبح عددها الآن 22 دولة، كانت جزر القمر آخرها عندما انضمت عام 1993.

و منذ نشوء جامعة الدول العربية و هي تعرف مشاكل بداية من انضمام الصومال و جيبوتي إلى الجامعة، حيث أحدث هذا جدلا على اعتبار أن لغتها الرسمية ليست العربية، و لكن مجلس الجامعة رأى أن أصل الشعبين عربي. كما اعترضت العراق عام 1961 على طلب الكويت بالانضمام مبررة ذلك بأنها جزء من أراضيها و انسحب المندوب العراقي بعد قبول المجلس عضويتها.

كانت القاهرة هي المقر الرئيسي للجامعة منذ إنشائها، إلا أنه في فترة تعليق عضوية مصر إثر توقيعها اتفاق سلام منفصل مع إسرائيل عام 1979 نقل مقر الجامعة إلى تونس، و ظل هناك حتى عام 1990، حيث عاد مرة أخرى إلى القاهرة.

و رغم أن جامعة الدول العربية لم تحقق الطموحات العربية فقد حققت بعض الإنجازات.

1- من العمل المغاربي المشترك إلى اتحاد المغرب العربي:

الوعي الإقليمي بوحدة المغرب العربي بدأ يتبلور في إطار الحركات الوطنية المغاربية، منذ مطلع القرن العشرين، إذ دأبت حركات التحرر في تونس و الجزائر و المغرب على التأكيد على البعد المغاربي لما بعد الاستقلال.

إحدى المراحل التأسيسية لمؤتمر المغرب العربي: انعقد بالقاهرة في فيفري 1947، و في سنة 1958 انعقد مؤتمر طنجة يوم 26 أفريل 1958 بالمغرب و الذي ضم ممثلين عن حزب الاستقلال المغربي و جبهة التحرير الوطني الجزائرية و حزب الدستور التونسي. عقد هذا المؤتمر بعد استقلال المغرب و تونس، في حين كانت الثورة الجزائرية لا تزال متواصلة. و يعتبر المؤتمر بداية التاريخ للمشروع الإقليمي المغاربي.

لم يتحقق حلم زعماء الحركات الوطنية المغاربية، فما إن استقلت الدول المغاربة حتى بدأت الخلافات السياسية لاسيما الحدود. و دخلت المغرب و الجزائر في “حرب الرمال” أكتوبر 1963. و لكن هذه الحرب لم تمنع الدول المغاربة من محاولة إرساء قواعد للتعاون الإقليمي، فأنشئ المجلس الاستشاري المغاربي عام 1964 لكن هذه التجربة الأولى في البناء الإقليمي المغاربي فشلت و سرعان ما أجهضت من جراء الخلافات السياسية بين الدول المغاربية.

و قد ازداد هذا الخلاف سنة 1974 بسبب قضية الصحراء الغربية، مما أدى في الدورة 12 للمجلس المغاربي على تعليق نشاطه إلى أجل مسمى.

و تعد مشاركة الحسن الثاني في القمة العربية التي عقدت بالجزائر في 1988 رمزا قويا للمصالحة الجزائرية المغربية، و تطرق قادة الدول المغاربة في قمة زرالدة جوان 1988 إلى مبدأ إنشاء اتحاد مغاربي، لكن أحداث أكتوبر 1988 تسببت في إرجاء القمة المغاربية التي كانت مقررة في نفس العام.

تجمع قادة دول المغرب العربي في مراكش يوم 17 فيفري 1989 و أعلنوا إنشاء “اتحاد المغرب العربي”، و تميزت معاهدة مراكش المؤسسة لهذا الاتحاد بعمومية أهدافها، و لم تشر هذه المعاهدة لمفهوم المغرب العربي و لا حدوده الجغرافية، و لا تعتبر الصفة “العربية” ميزة خاصة أو معيار قبول أو رفض عضوية دول أخرى، فتنص المادة 7 من المعاهدة على أن “للدول الأخرى المنتمية إلى الأمة العربية أو إلى المجموعة الإفريقية أن تنظم إلى هذه المعاهدة إذا قبلت الدول الأعضاء”.

و قد طغى العامل السياسي في إنشاء اتحاد المغرب العربي على الجانب الاقتصادي و عقدت منذ القمة التأسيسية (مراكش 1989) ست دورات على مستوى الرئاسة كانت الأولى في تونس ثم الجزائر ثم ليبيا ثم الدار البيضاء فنواكشط، و أخيرا تونس في أفريل 1994، أما الدورة 7 المزمع عقدها في الجزائر فلم يكتب لها الانعقاد بسبب الخلافات الجزائرية المغاربية، حيث فشلت مؤسسات هذا الكيان، عندما جمد المغرب عضويته احتجاجا على ما أسماه بالسياسة الجزائرية المناوئة لمصالحة (الصحراء الغربية).

بعد أكثر من 6 سنوات على تجميد مؤسسات اتحاد المغرب العربي بطلب من الرباط، تمكنت الدول الأعضاء من إعادة إحيائه بانعقاد اجتماع في الجزائر يومي 18 و 19 مارس 2001 ضم وزراء خارجية دول الاتحاد باستثناء المغرب الذي أوفد إلى العاصمة الجزائرية وزير الدولة الخارجية و التعاون، هذا الأخير جدد رفض بلاده وضع ملف الصحراء الغربية جانبا و التفرغ لبناء المغرب العربي، حسب اقتراح قدمته الجزائر.

لم يحدد الوزراء في اجتماعهم تاريخا لانعقاد قمة مغاربية و اكتفوا بتأكيد العمل على تنشيط مختلف مؤسسات الاتحاد، أما فيما يتعلق بانضمام مصر إلى الاتحاد فقد أشار بلخادم إلى أن هذه الأخيرة قدمت طلبا و قد أحيل إلى الهيئة القانونية للتطرفية.

و بذلك فإن قمة الاتحاد المغرب العربي لم تعقد أس قمة على مستوى الرؤساء منذ قمة تونس عام 1994.

أسباب فشل اتحاد المغرب العربي:

– غلبة الهاجس السياسي على الهاجس الاقتصادي، حيث أن اتحاد المغرب العربي تأسس على أساس سياسي.

– تبنى قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات (المادة 6) جعلها عرضة لخلافات سياسية أدت إلى فشل الاتحاد، مما أدى بوزراء دول الاتحاد في مارس 2001 بالجزائر إلى اقتراح تعديل المعاهدة و استبدال مبدأ الأغلبية بقاعدة الإجماع، و أحيلت هذه القضية إلى لجنة خاصة للبحث فيها في انتظار انعقاد قمة مغاربية.

– الخلافات الجزائرية المغربية أهم و أبرز معوقات العمل المغاربي المشترك.

مجلس التعاون الخليجي:

تعد تجربة العمل العربي المشترك بين دول مجلس التعاون الخليجي من التجارب العربية ذات الديمومة بالمقارنة النسبية مع تجارب الدول العربية، إذ حافظ المجلس على وجوده منذ تأسيسه عام 1981 حتى اليوم.

و ينظر لمجلس التعاون الخليجي إلى أنه استجابة لهاجس أمني، هو ما يحول دون تطوره إلى عمل حقيقي مشترك في المجالات الاقتصادية و التعليمية و الدفاعية، كما أنه باستبعاده للعراق و اليمن فقد تجاوز الحقائق الجغرافية و أهمل مصدر الأهمية الإقليمية و الرصيد الحقيقي لموارد القوة، و اقتصر على دول قليلة السكان لا تشكل في مجموعها (15 مليونا) تجمعا لإقليم فاعل و مؤثر.

قام مجلس التعاون الخليجي في 4 ديسمبر 2007 بإنشاء السوق الخليجية المشتركة، و ذلك لتحقيق التكامل بينها و ما يجب أن نذكره هو أن المملكة العربية السعودية هي القائد و المهيمن على مجلس التعاون الخليجي كما أن لمجلس التعاون الخليجي عدة نقاط ضعف هي:

– تشابه اقتصاديات هذه الدول يجعل الفائدة من المشاريع المشتركة دون جدوى اقتصادية.

– تبعية دول المجلس اقتصاديا للعالم الخارجي، حيث أن دول الخليج تستورد معظم ما تحتاجه من العالم الخارجي.

– عدم تنوع مصادر الدخل في معظم هذه الدول و اعتماد جل ميزانياتها على الموارد النفطية.

و خلاصة كل هذا أن مجلس التعاون الخليجي تأسس لتحقيق الأّمن إلا أن هذا الهدف فشل حيث هناك استمرار في الاعتماد على العامل الخارجي في حماية أمن الخليج و تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية و السماح لها ببناء قواعد تضمن وجودها في المنطقة.

مجلس التعاون العربي (تجربة لم تكتمل):

يعتبر المجلس العربي كيانا اقتصاديا يدفع باتجاه دعم الجهود الوحدوية الاقتصادية العربية نحو تحقيق الحلم العربي (السوق العربية المشتركة).

تأسس مجلس التعاون العربي في 16 فيفري عام 1989 بهدف زيادة حجم التبادل التجاري بين الأردن و مصر و العراق و اليمن.

و أصبحت مهام هذا المجلس تمثل في تطوير و إنجاح التطور الاقتصادي العربي و ذلك ب:

– ضرورة تحقيق أعلى مستوى للتنسيق و التعاون و التضامن بين الأقطار العربية.

– تحقيق التكامل الاقتصادي تدريجيا.

– تشجيع الاستثمارات و المشروعات المشتركة.

و لكن بعد تأسيس هذا المجلس بأشهر معدودة أتت حرب الخليج على هذه التجربة، و رغم ذلك فقد حقق المجلس إنجازات لا يمكن تجاهلها. فعلى صعيد الهيكلة التنظيمية لمؤسسات الاتحاد عقدت عدة اجتماعات للهيئة العليا و على مستوى القادة الأربعة، حيث ناقشت و بنت في جملة من الاتفاقات و المواضيع المختلفة.

أما الأمانة العامة اتخذت من عمان مقرا لها، و هيأت الأرضية التنظيمية و الإدارية لمختلف اللجان.

غير أن كل هذه الاتفاقات و البرامج المختلفة التي تم التوقيع عليها، لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ و الممارسة رغم كونها شاملة واعدة ترمي إلى تحقيق خطوات وحدوية، ذات اتجاه لقيام الوحدة الاقتصادية العربية، إلا أن الخلافات السياسية تخطت كل ذلك لتأتي حرب الخليج و توقف العمل في مختلف الميادين لتبقى تلك القرارات و الاتفاقات حبرا على ورق.

و بذلك فإن هذه التجربة و عن أول مرة سياسية انهارت، فقد وضع الاجتياح العراقي للكويت 1990 حدا لهذا المجلس.

و رسميا تم وضع حد لهذا المجلس في فيفري 1994، حيث أعلنت مصر على إلغاء اتفاقية تأسس مجلس التعاون العربي، و سبقتها الأردن في 1992 عندما قامت بتصفية مجلس التعاون العربي.

 

المبحث الثاني: نماذج من محاولات الوحدة

الوحدة المصرية – السورية:

الاسم الرسمي لهذه الوحدة هو الجمهورية العربية المتحدة.

أعلنت الوحدة في 22 فيفري 1958 بتوقيع ميثاق الجمهورية المتحدة من قبل الرئيسين السوري شكري التوتلي و المصري جمال عبد الناصر، اختير عبد الناصر رئيسا و القاهرة عاصمة للجمهورية الجديدة، و في عام 1960 تم توحيد برلماني البلدين في مجلس الأمة بالقاهرة و ألغيت الوزارات الإقليمية لصالح وزارة واحدة موحدة في القاهرة أيضا. أنهيت الوحدة بانقلاب عسكري في دمشق يوم 28 سبتمبر 1961 و أعلنت سوريا انفصالها عن مصر لتسمى “الجمهورية العربية السورية”، بينما احتفظت مصر باسم “الجمهورية العربية المتحدة” حتى عام 1970 عندما سميت باسمها الحالي جمهورية مصر العربية.

من أهم أسباب الانفصال:

– قدوم عدد كبير من العمال المصريين إلى سوريا مما أدى إلى اختلال التوازن و انتشار البطالة.

– سياسات استبدادية من قبل الحكومة المصرية.

– اشتراط عبد الناصر إلغاء التعددية السياسية لقبول الوحدة، مما أدى إلى انزعاج السوريين.

– قيام مصر بتسريح أخبار الضباط السوريين من الجيش ليحكموا السيطرة على البلاد.

الاتحاد العربي الهاشمي:

كان اتحاد بين المملكة العراقية و المملكة الأردنية عام 1958 و قد تم هذا الاتحاد بين فيصل الثاني ملك العراق و الحسن بن طلال ملك الأردن، و أعلن رسميا عن قيام هذا الاتحاد في 14 فيفري 1958. بين دستور الاتحاد أن الاتحاد يتكون من المملكة العراقية و المملكة الأردنية و عضويته مفتوحة لكل دولة عربية ترغب في الانضمام إليها بالاتفاق مع حكومة الاتحاد. ينص الدستور أن ملك العراق هو رئيس الاتحاد و أن مقر حكومة الاتحاد يكون بصفة دورية 6 أشهر بغداد و 6 أشهر في عمان و في 17 فيفري تمت المصادقة على الاتفاقية من طرف العراق.

استراتيجيا جاء الاتحاد كرد لقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر و سوريا و مخالفة إيديولوجيا للمملكتين. انتهت الوحدة ببيان 14 يوليو مع الإطاحة الملكية في العراق أعلن رئيس الوزراء الجديد عبد الكريم قاسم في 16 يوليو حل الاتحاد واصفا إياه بأنه اتحاد لم يستهدف مصلحة الشعب في القطرين و إنما لتدعيم النظام الملكي الفاسد.

اتحاد الجمهوريات العربية:

بيان و اتفاق وحدة في 17 أفريل 1971 لم يتم تطبيقه عمليا بين 3 دول عربية هي سوريا، مصر، ليبيا في عهد الرؤساء حافظ الأسد، أنور السادات، معمر القدافي، السبب الأساسي لعدم نجاح الاتفاق كما يبرره السوريون و الليبيون هو إقامة كامب ديفيد التي وقعها السادات.

اتحاد الجمهورية العربية الإسلامية:

هو مشروع وحدة بين تونس و ليبيا أعلن عنه في 12 جانفي 1974 بين الرئيس الحبيب بورقيبة و الزعيم الليبي معمر القذافي، جاء إعلان الوحدة بصفة مفاجئة، و كان الاتفاق يقتضي بتول بورقيبة منصب الرئيس و القذافي منصب نائب الرئيس، كان مقررا أن تتم المصادقة على الاتفاق بعد إقامة استفتاء في البلدين، لكن أمام عدم ورود نص في الدستور التونسي حول إجراء استفتاء تم تأجيله. وقع في النهاية إبطال الاتفاق بعد رفضه من قبل عدد من السياسيين التونسيين، فعدل بورقيبة عنه، و أدى إبطال الاتفاق إلى توتر كبير في العلاقة بين بورقيبة و القذافي.

اتحاد اليمن:

كان دولتين يعرفان باسم الجمهورية العربية اليمنية في الشمال و جمهورية اليمن الديمقراطية النهضة في الجنوب و في عام 1990 توحد الجمهوريتان تحت اسم الجمهورية اليمنية، لكن في عام 1994 نشئت حرب بين طرفي الوحدة، انتهت الحرب بانتصار القوات المؤيدة للرئيس و استمرار الوحدة بين شطري اليمن.

  

الفصل الثالث: تقييم الوحدة العربية

المبحث الأول: مقارنة بين محاولات الوحدة العربية و الوحدة الأوروبية

لقد بدأت الوحدة الأوروبية مشروعا فكريا في أذهان مفكرين وحكماء وفلاسفة وفقهاء ورجال قانون ومصلحين اجتماعيين قبل أن تتحول إلى مشروع سياسي تدعمه المؤسسات السياسية والاقتصادية، ويتبلور تدريجيا عبر سلسلة من الرؤى والتطبيقات والصراعات.

المقارنة بين التجربتين العربية والأوروبية  تقتضي أن نفترض أن البلدان العربية مقتنعة تمام الاقتناع بضرورة التخلي عن النهج القومي الذي سيطر على التفكير العربي، والذي كان يصر دائما على حق الأمة العربية المجزأة في قيام دولتها الموحدة في قفزة فورية عملاقة تكتسح الحواجز المصطنعة، وأن يقرر العرب بدلا من ذلك اقتفاء أثر التجربة الأوروبية، وتبني نهج وظيفي لبناء وحدة تدريجية على مراحل، تبدأ بتكامل اقتصادي وتنتهي بشكل من أشكال الوحدة السياسية. فهل تستطيع البلدان العربية -بأوضاعها الحالية- أن تقوم بعملية تكاملية ناجحة تعتمد على النهج الوظيفي بمجرد أن تقرر ذلك؟ الجواب هو “لا” بصورة قاطعة وفورية، لسبب بسيط هو أن الشروط اللازمة لتطبيق فعال للنهج الوظيفي في عملية تكاملية ناجحة ليست متوافرة في الواقع العربي.

وقد تمكنت تجربة التكامل الأوروبي من تطبيق النهج الوظيفي بنجاح، لسبب بسيط هو أنها تمكنت من حل ثلاث معضلات أساسية: أولاها تحييد الخلافات السياسية وعزل تأثيراتها السلبية المحتملة في العملية التكاملية، وثانيتها بناء مؤسسات فعالة قادرة على إدارة العملية التكاملية، وآخرها ضمان تقدم العملية التكاملية إلى الأمام واستمرارها والحيلولة دون التفافها حول نفسها.

ومن دون توفر هذه الشروط الثلاثة يستحيل على أي تجربة تكاملية أن تنجح مهما حسنت النيات أو توفرت الإرادة والتصميم. ولأن هذه الشروط غير متوافرة في الواقع العربي بأوضاعه الحالية فإن العمل على توفير متطلباتها يعد أحد أهم الدروس المستفادة من الخبرة الأوروبية.

تظهر المقارنة بين النظامين الإقليميين الأوروبي والعربي وجود عوامل تشابه بينهما، فكلاهما ينقسم إلى دول ذات سيادة تتباين في أحجامها وقوتها وثرواتها، وترتبط فيما بينها بروابط مشتركة، ولكن من طبيعة مختلفة تدفعها للتعاون فيما بينها.

فالدول العربية ترتبط فيما بينها بروابط اللغة والتاريخ والثقافة، أما الدول الأوروبية فتتشابه نظمها السياسية إلى حد كبير، فتشترك فيما بينها بروابط المصلحة أساسا، وتظلها روابط دينية وحضارية عامة، مع أن تجربتي المنطقتين انطلقتا في وقت واحد تقريبا بعد الحرب العالمية الثانية.

ولكن المقارنة الأكثر عمقا تظهر اختلافات عدة بينهما من حيث الجوهر والمضمون، فمن الواضح أن لتجربة التكامل الأوروبي والإقليمي سياقا تاريخيا مختلفا تماما عن السياق التاريخي الذي نشأت فيه التجربة العربية، وأن كلا منهما نشأت وترعرعت في بيئة عالمية وإقليمية مختلفة تماما عن البيئة التي نشأت فيها الأخرى، وكان لهذه العوامل كلها تأثير واضح في الخصائص الذاتية لكل من التجربتين.

إن السياق التاريخي بالنسبة للتجربة الأوروبية هو أنها تجربة تكامل بين دول قومية متبلورة ومكتملة النضج لكل منها خصوصيتها وهويتها الثقافية والقومية، وتجربة للتكامل بين أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان والمواطن، وأخيرا تجربة لتحقيق الوحدة السياسية على مراحل.

أما التجربة العربية فينظر إليها كتجربة للتكامل بين أقطار تبدو مصطنعة، تعكس واقع التجزئة المطلوب هدمه وتغييره وبناء دولة الوحدة على أنقاضه، ثم كتجربة للتكامل العربي بين دول غير مكتملة النمو والنضج وتفتقر بالتالي إلى مؤسسات سياسية قوية ومستقرة، وأخيرا كتجربة نشأت في ظل ارتباط العديد من الدول العربية بعلاقات وترتيبات خاصة مع قوى خارجية.

وفي السياق الدولي فإن التحولات التي طرأت على النظام الدولي، بعد سقوط وانهيار كل من المعسكر الشرقي والاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، غيرت من سياق وطبيعة علاقة الجماعة الأوروبية بالقوى الدولية الكبرى الأخرى، أي الولايات المتحدة التي بدأت تتطلع إلى الهيمنة المنفردة على النظام الدولي، لكن هذا لا يعني أن العلاقات الأميركية الأوروبية تعرضت إلى مرحلة الصدام المباشر.

أما بالنسبة للتجربة العربية وفي ما يتعلق بالعامل الخارجي في حركة الوحدة والتكامل فلم تتوافر للتجربة العربية في أي مرحلة من مراحل تطورها بيئة دولية حاضنة لقضية الوحدة أو ملائمة لنموها، فموازين القوى العالمية، وطبيعة التحالفات الدولية الناجمة عنها لعبت دورا سلبيا في التجارب الوحدوية العربية.

وعلى المستوى الإقليمي بدأت التجربة الأوروبية بأحد الأنساق الفرعية لنظام إقليمي أوسع، يجسده مجلس أوروبا إلى جانب العديد من الأنساق أو النظم الفرعية الأخرى للنظام الإقليمي الأوروبي فشملت عددا من المنظمات الأوروبية المتخصصة التي تتسع أو تضيق العضوية فيها حسب الأحوال.

أما الاتحاد الأوروبي فليس مجرد واحد من هذه الأنساق الفرعية التي تشكل في مجموعها مجمل النظام الإقليمي الأوروبي، فهو المنظمة الوحيدة التي تجسد العملية التكاملية والاندماجية في أوروبا التي قبلت الدول الأعضاء بموجبها نقل جزء يتزايد باطراد من اختصاصاتها وصلاحياتها إلى مؤسسات مشتركة بغية الوصول إلى هدف نهائي طموح، هو تحقيق وحدة أوروبا السياسية باستخدام منهج وظيفي متدرج يبدأ بالاقتصاد وينتهي بالسياسة.

أما عن التجربة العربية إقليميا فقد تميزت بعلاقات بينية تمتاز بالتوتر وعدم الاستقرار بسبب مشكلات الحدود واختلاف النظم و الأيدولوجيات السياسية وتباين موازين القوى، بالإضافة إلى طابع الصراع الذي اتسمت به العلاقات العربية مع الدول المجاورة كإسرائيل وتركيا وإيران، لذلك فقد كان من الصعب على الوطن العربي عزل قضايا السياسة والأمن عن قضايا الاقتصاد والتجارة على النحو الذي تم في أوروبا.

التجربة العربية لم تتوفر لها بيئة دولية حاضنة لقضية الوحدة، بل إن موازين القوى العالمية وطبيعة التحالفات الناجمة عنها لعبت دورا سلبيا في التجارب الوحدوية العربية

مدى قابلية النهج الأوروبي للتطبيق في الواقع العربي

نشأ كل من النظام الأوروبي و العربي في سياقات تاريخية و دولية مختلفة، و بالتالي فقد كان من الطبيعي أن يفرز كل منهما مناهج و آليات تكاملية مختلفة مع هذه السياقات، و لكون التجربة االأوروبية في التكامل هي الأنجع و الأكثر تحقيقا للإنجازات الملموسة على الأرض، فقد أصبح هناك ميل لمدح التجربة الأوروبية و الإشادة بها في الكتابات العربية، و في المقابل هناك انتقادات للتجربة العربية.

  و عند المقارنة بين التجربتين العربية و الأوروبية نلاحظ أن اهمال التجربة العربية للمنهج الوظيفي هو السبب في تعثرها، كما نثير نقطة أخرى هي مدى توافر التربة الصالحة في إنجاح هذه التجربة على المستوى العربي لتحقيق نفس النتيجة التي حققتها أوروبا.

و لئن كان للعوامل الخارجية دور في ذلك سواء على مستوى الدول العربية أو الأوروبية، فإن الدور الأساسي في إنجاح التجربة يبقى العوامل الذاتية أو الداخلية، و بالتالي فإن إنجاح أي تجربة تكاملية مرهون بقدرة القائمين عليها على فهم و تشخيص عوامل القوة و الضعف الفعلية و الكامنة، و محاولة الاستفادة من عوامل القوة إلى أقصى حد ممكن، و التغلب في الوقت نفسه على عوامل الضعف لصالح دفع العملية التكاملية، و فهم و تشخيص طبيعة الفرص و المحاذير التي قد تتيحها أو تفرضها موازين القوى العالمية و الإقليمية المحيطة بالتجربة التكاملية، و اختيار أنسب الوسائل لتحقيق أهدافها المرجوة بما يتلاءم و هذه العوامل و الموازين.

لكن الواقع العربي بأوضاعه الحالية لا يوحي بنجاح هذه التجربة بمثل نجاحها في أوروبا ما لم تتوافر الشروط ذاتها التي نجحت من خلالها و بها التجربة الأوروبية.

   هناك شروط و مؤهلات يجب امتلاكها لنجاح تطبيق التجربة الأوروبية عربيا مثل تحديد الخلافات السياسية و بناء مؤسسات فعالة ثم ترتيب ضمانات لاستمرارية الوحدة و بقائها.

   إن القضية الفلسطينية و الصراع العربي الإسرائيلي يلقي بظلاله على العمل العربي المشترك، إذ أن إسرائيل كيان يهدد الدول العربية، في نفس الوقت الذي كانت فيه إدارة الصراع مع إسرائيل سببا في مزيد من تعقيد الوضع و التباعد و الاختلاف و الفشل.

و من أهم ضمانات نجاح العمل و استمراره أيضا إجراء إصلاحات سياسية واسعة النطاق في الوطن العربي تستهدف إقامة نظم مؤسسية و ديمقراطية فاعلة في جميع البلدان العربية.

المبحث الثاني: الدروس المستفادة من التجارب الوحدوية العربية

– يجب إعادة النظر في التجارب التعاونية الإقليمية خاصة من الناحية الهيكلية.

– تحييد البعد السياسي خاصة الخلافي منه، و تسخير التوافق و التقارب السياسي لصالح الميادين الاقتصادية و الاجتماعية الأخرى.

– حل الخلافات بالوسائل السلمية، و تغليب مصالح الدولة على مصالح النظام أو الحاكم.

– الاستفادة من التجارب التعاونية و الوحدوية الأخرى في العالم، و لعل تجربة الاتحاد الأوروبي قدوة إذ رغم الاختلافات العرقية و الدينية و الحروب التاريخية، فإنهم استطاعوا تجاوز كل المعوقات و الوصول إلى حالة وحدوية رائدة.

الأُمة والقومية:‏

1- مهمة الحركة القومية أن تحول الأُمة الموحدة من حال الوجود بالقوة، على حد تعبير أرسطو، إلى حال الوجود بالفعل. والأُمة العربية، بحكم مقومات الوحدة الموضوعية الراسخة فيها، موجودة بالفعل، وقائمة هناك في أعماق المشاعر لدى أبناء الشعب العربي، ومتجلية في حتمية التكامل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تفرضه بنية الوطن العربي وطبيعته وحاجاته. وليس من جديد القول أن نؤكد حقيقة بدت بدهية، وهي أنه ما اجتمع لأُمة مثل ما اجتمع للأُمة العربية من مقومات الوحدة. سوى أن هذا الوجود الموحد بالقوة، بحكم تلك المقومات وبحكم حاجات مستقبل الوطن العربي كله ومستلزمات تقدم كل قُطر من أقطاره، لا ينقلب إلى وجود بالفعل سهواً رهواً أو بعصا ساحر أو بقرار سياسي عاجل.‏

أمراض التجزئة:‏

2- ذلك أن أمراض التجزئة قد استشرت في أرجاء الوطن العربي بعد حقبة طويلة من الانفصال بين أجزائه، ومن غير الجائز تجاهلها أو التقليل من خطرها. ولعل تلك العلل التي ولدتها التجزئة، وما رافقها من قيام كيانات متحجرة ومن ولادة مصالح طبقية وسياسية معطِّلة، هي من أبرز العوامل التي ساعدت على فشل تجارب الوحدة العربية في العقود الأخيرة. لاسيما أن آثار تجزئة الوطن العربي من قبل الاستعمار الغربي قد انضافت إليها آثار حقبة طويلة من التخلف والجهالة مرت بها الأمة العربية منذ انهيار الدولة العربية وسقوطها في أيدي أخلاط المغول والتتر والأتراك، ومنذ سقوط بغداد بوجه خاص على يد هولاكو عام 1258، وما تلا ذلك من حكم عثماني مغرق في الجهالة ومعادٍ للعروبة، خلَّف في الواقع العربي وفي النفوس والعقول من عِلل التجزئة وأمراضها ومن مظاهر الإقليمية وأعراضها أوبئة كثيرة لا يمكن إغفال دورها في مقاومة العمل الوحدوي الناشئ.‏

دور الاستعمار والإمبريالية:‏

3- يُضاف إلى هذا أن الاستعمار، ومن بعده الإمبريالية، قد جعلا على رأس أهدافهما إضعاف الوجود العربي عن طريق تجزئته وتفتيته، والحيلولة بينه وبين وحدته وتضامنه، ومنع تقدمه بالتالي، وتعطيل أي جهد يقوم به من أجل بناء مشروعه الحضاري المتقدم وكيانه الموحد القادر. ونرى ذلك واضحاً في تصريحات الكثير من أقطاب الدول الاستعمارية منذ أيام ازدهار الاستعمار البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (ويكفي من أجل ذلك أن نرجع إلى تقرير بنرمان الشهير عام (1907) حتى ظهور الإمبريالية الجديدة). كما كان واضحاً في نكوص تلك الدول عن وعودها للعرب بعد الحرب العالمية الأولى (معاهدة سايكس بيكو، مؤتمر الصلح بفرساي، مؤتمر سان ريمو وسواها) ثم في تآمرها الحديث ضد الوحدة العربية المصرية السورية بوجه خاص، وضد أي جهد وحدوي آخر.‏

تفتيت الوجود العربي رأس الأهداف الصهيونية:‏

4- وقد التقت خطة الاستعمار والإمبريالية هذه مع الخطة الصهيونية وأهداف الحركة الصهيونية منذ بدايتها، وولد منذ ذلك الحين حلف مشترك يحمل هدفاً مشتركاً أساسياً هو السعي الدائب لتفتيت الوجود العربي بشتى الأساليب، عن طريق استغلال الانقسامات الطائفية والعِرقية، وعن طريق إذكاء المصالح القُطرية الضيقة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، تحقيقاً لاستقرار الدولة اليهودية وضماناً لأمنها.‏

دور الحركة القومية العربية:‏

5- ومن هنا كان تحويل الوجود العربي الموحد بالقوة إلى وجود عربي موحد بالفعل، أمراً يحتاج إلى نضال مستمر على شتى المستويات، يستهدف المقاومة العلمية والعملية المنظمة للعوامل التي تبقي على التجزئة وتذكيها، وعلى رأسها العوامل التي أشرنا إليها (أمراض التجزئة، الاستعمار، الصهيونية وإسرائيل). ومعنى هذا أن الحركة القومية لا تجد أمامها طريقاً معبَّدة ميسَّرة، بل تجد أمامها طريقاً مليئة بالمصاعب والأشواك. والمقتل الذي تتعرض لـه الحركة القومية العربية هو أن تحسب أن توحيد الأمة العربية ينبغي أن يأتي عفو الخاطر، كالثمرة التي تتساقط من الشجرة بعد نضجها، أو أن تظن أن القرارات السياسية وحدها، مهما يكن شاؤها، قادرة على توليد ذلك الوجود الموحد. فللظواهر الاجتماعية قوانينها، وهي لا تُغيَّر بجرة قلم، أو بإرادة حاكم. ولابد للتأثير في القوانين التي تحكم أية ظاهرة اجتماعية من تشكيل الظروف تشكيلاً جديداً قادراً على تغيير تلك القوانين لكي نستبدل بها قوانين جديدة. والعوامل التي خلقت التجزئة في الوطن العربي، والتي ما تزال تعمل على ترسيخها، قوانين صارمة، لابد من تحليلها وإدراكها إدراكاً علمياً عميقاً من أجل وضع خطة علمية للتغلب عليها، ولابد لتعطيلها من نضال يومي مستمر ومتصل على جميع الأصعدة الفكرية والسياسية وسواها.‏

الجمع بين العقل والانفعال أبرز مهمات الحركة القومية:‏

6- وبتعبير آخر، مهمة النظرية القومية والحركة القومية أن تضيف إلى المشاعر الانفعالية والعاطفية المستقرة في نفوس الكثرة الكاثرة من أبناء الشعب العربي والتي تشعرهم بوحدة وجودهم ومصيرهم، وعياً عقلياً علمياً محركاً من جانب، ونضالاً فكرياً سياسياً مستمراً من جانب آخر. أما الوعي العقلي العلمي فسلاحه بالدرجة الأولى أفكار وأنظار ودراسات تظهر عمق جذور الوحدة بين أبناء الشعب العربي، وتكشف عن تكامل الوجود العربي ووحدة مصيره، وتضع بوجه خاص أمام أبناء الشعب العربي الصورتين الممكنتين لذلك الوجود (أو المشهدين الممكنين): صورة الوجود العربي في حال استمرار التجزئة (وهي صورة مظلمة قاتمة تكاد تكون عين الصورة التي يريدها الاستعمار وتريدها إسرائيل)، وصورة الوجود العربي في حال التكامل والتضامن والوحدة (وهي وحدها القادرة على التغلب على الطريق المسدود الذي كادت تصل إليه الدول القُطرية في البلاد العربية في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية وسواها، فضلاً عن شأنها في بناء الكيان الحضاري العربي الخصيب في عصر الكتل الكبرى). ومثل هذا الجهد العقلي يضطلع بجانب هام منه “مركز دراسات الوحدة العربية” ومقره بيروت، وقد كانت أبرز صُوره تلك الدراسات التي أعدها حول “استشراف مستقبل الوطن العربي”. وهو جهد ينبغي أن تغذيه العقول العربية جميعها بعطائها تغذية واعية لأغراضها، لا تكتفي بتقديم الدراسات العلمية حول أهمية تكامل الوجود العربي في شتى الميادين، بل تتريث بوجه خاص عندما تحمله الدراسات من معانٍ تشير إلى حتمية الوحدة، وتقوى بالتالي على أن تجعل من الأفكار والأنظار قوى محركة فاعلة.‏

وأما النضال الفكري والسياسي، فينبغي أن ينطلق من ذلك الوعي العقلي والعلمي، المحمَّل بالشحنة الانفعالية المشرئبة إلى الوحدة، وبالإيمان بأهميتها ودورها الحاسم، من أجل تعبئة الجماهير العريضة تعبئة منظمة، بحيث تصبح قوة ضاغطة ومحركة، وبحيث تقوى بوجه خاص على الكشف عن القوى المعادية للوحدة بشتى أشكالها، من أجل تعطيلها وإبطال سعيها.‏

المعرفة قوة:‏

7- وهذه الطاقة التي تولد على هذا النحو من شرارة اللقاء بين الوعي والانفعال، ينبغي أن يهديها عمل علمي رصين، يرصد العوائق التي تقف في وجه الوحدة، ويحلل أسبابها ومنطلقاتها، ويعمل على مغالبتها مغالبة علمية منهجية. ولئن كان الكثير من معوقات الوحدة يتخفى ويتراجع أمام حميا العمل القومي الجاد والمؤمن والواعي. فإن من الوهم أن نتخيل أن تنهار هذه المعوقات انهياراً حاسماً إذا نحن لم نقتلع جذورها عن طريق فهم عوامل تكوّنها وولادتها، ودوافع نموها وانتشارها، فهماً يُمكِّننا من إبطال طاقتها الحركية المولدَّة. وهذا يستلزم تحليلاً علمياً موضوعياً رصيناً ودقيقاً للواقع العربي، في شتى مجالاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بل في مجالاته الإنسانية والنفسية، قوامه البحث عن الخيوط الرائدة التي تمسك بهذا الواقع المجزأ المتردي، ومنطلقه التغلب على الأشياء عن طريق الخضوع لها، على حد تعبير “فرانسيس بيكون”، أي عن طريق معرفتها وإدراك قوانينها….‏

ومثل هذا التحليل العلمي الرصين ليس بالأمر اليسير. إنه في حاجة إلى تضافر العقول العربية من أجل تحليل الواقع العربي وإدراك جذوره التاريخية، ومن أجل البحث بحثاً توليدياً تكوينياً في نشأة المشكلات التي يواجهها والعقبات التي يشكو منها. وذلك كله في سبيل التأثير الفعَّال المجدي في مسيرة واقع عربي لا نعرفه حق المعرفة حتى اليوم.‏

لا بد من اقتلاع عوامل اليأس من نفوس الجماهير:‏

8- ولعل أبرز وسائل النضال المتصل من أجل بناء الوحدة، اقتلاع عوامل اليأس من نفوس الجماهير العربية. ويتم ذلك بوجه خاص عن طريق التأكيد على أن العمل من أجل الوحدة عمل طويل النفس، عمل يغالب عوامل موضوعية قائمة، وأن فشل تجارب الوحدة العربية لا يعني فشل مبدأ الوحدة، بل يؤكد أهمية العمل العقلاني الطويل في سبيل التغلب على العوامل التي أدت إلى فشل التجارب السابقة، وقد تؤدي، إن استمرت، إلى فشل التجارب اللاحقة. والتاريخ لا يعرف أمة لم تواجه الفشل تلو الفشل في بناء كيانها المرجو، ولكنه يعرف أمماً كثيرة أدركت عوامل الفشل وتغلبت عليها في النهاية. وليست دروس الوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية والوحدة السلافية بل الوحدة الأمير كية (الولايات المتحدة) ببعيدة عن أذهاننا. بل لعل من واجبنا أن نعي وعياً أعمق دروس قيام الكيان الإسرائيلي بعد خمسين عاماً من ولادة الحركة الصهيونية على يد “هرتزل”.‏

مضمون الوحدة يولِّد شكلها:‏

9- أما الشكل الذي يمكن أن تأخذه الوحدة فهو الشكل الذي يولد من خلال تحرك الحركة القومية العربية ونضالها ونموها، والذي يفرضه الوجود العربي نفسه بعد أن يتحرر من عوامل التجزئة ويعي ذاته وأهدافه. ورغم ما قيل ويقال عن أهمية الشكل في نجاح الوحدة، ورغم الفكرة التي ترى أن أحد أسباب فشل تجربة الجمهورية العربية المتحدة ركونها منذ البداية إلى الوحدة الاندماجية بدلاً من الوحدة الاتحادية أو سواها، يظل من الصحيح أن الشكل وحده لا يحل المسألة، وأن حلها لا يكون إلاّ بالنضال المستمر من أجل التغلب على عوامل التجزئة، وأن هذا النضال هو وحده الذي يمنح للشكل مضمونه السليم القادر على الحياة والبقاء، بل هو الذي يولد ذلك الشكل.‏

على أنه يظل من الصحيح – لا سيما في عصرنا – أن اللامركزية الإدارية أقدر دوماًُ على تحقيق أوسع مشاركة في الحكم من قبل المناطق المختلفة والفئات الاجتماعية المتنوعة، وأن منح المزيد من الصلاحيات للسلطات المحلية، على اختلاف مستوياتها الإدارية، يزيد في تلاحم الأمة كما يزيد في فعالية الحكم جملة وفي مردوده وعطائه، فضلاً عن آثارها الهامة في إشاعة الديمقراطية الحقة، عن طريق المشاركة الفعلية في الحكم. وفي كل الأحوال، لا بد من العمل الفكري والسياسي والنضال العملي الموصول من أجل بناء الوحدة. من خلال الثغرات التي تفسح المجال لمشاعر الغبن أو منازع التسلُّط أو آفات انعدام العدالة بين أجزاء الدولة الواحدة أياً كان شكلها.‏

وما جرى قبل قيام الدولة الاتحادية في أمريكا يقدم لنا درساً ثميناً في هذا المجال، ويبين كيف عمل المنادون بالوحدة بين الدول الثلاث عشرة إذ ذاك على تأكيد سلطات كل ولاية في كثير من المجالات، وعلى توفير الضمانات اللازمة للولايات الكبيرة والصغيرة على حد سواء، الأمر الذي غدا من أهم مقومات دستور الولايات المتحدة (كما يظهر بشكل خاص في التمثيل النسبي في الكونغرس تبعاً لعدد السكان في مقابل التمثيل المتساوي في مجلس الشيوخ). وفي كتاب “الدولة الاتحادية” “لهاملتون” و “ماديسون” و”جي” (الذي ترجمه الدكتور جمال محمد إلى اللغة العربية منذ عقود عديدة) عرض عامر بالدروس ومثير للاهتمام لصنيع دعاة الوحدة إذ ذاك، وحرصهم بوجه خاص على استخدام لغة المنطق والعقل والواقع في تصورهم للدولة الاتحادية الموعودة.‏

مبدأ الوحدة لم يفشل:‏

10- وجملة القول أن تجربة الدولة القطرية تجربة أثبتت فشلها في شتى الميادين، ولكنها باقية بسبب العوامل التي ولدت التجزئة. وإن مبدأ الوحدة العربية لم يفشل، ولكن الذي فشل هو العمل للوحدة دون قيام الوعي الفكري والسياسي اللازم لقيامها، ودون الاضطلاع بالنضال الجماهيري الذي يعمق الإيمان بها، ويعبىء النفوس من أجلها. وما نراه اليوم من تردي الواقع العربي في شتى المجالات ليس إلا برهاناً بالخلف، كما يقول المناطقة، على ما يؤول إليه الوجود العربي حين ينحسر المد القومي ويضعف الوعي الوحدوي ويخمد النضال الجماهيري.‏

ترابط عناصر النضال من أجل الوحدة:‏

11- ولا حاجة إلى القول أن التوعية الوحدوية والنضال الوحدوي ضد عوامل التجزئة التي أشرنا إليها يكشفان على نحو واضح عن الصلة العميقة المتبادلة بين النضال ضد الإمبريالية وإسرائيل، والنضال ضد العلل والاتجاهات الفكرية والنفسية التي خلفتها التجزئة، والنضال ضد أصحاب المصلحة في بقاء التجزئة على اختلاف صورهم وانتماءاتهم. على أنهما يكشفان، أولاً وقبل كل شيء، عن أهمية تحرير العمل الفكري والجهد الشعبي والجماهيري من القيود التي تفرض عليهما.‏

إطلالة على المستقبل:‏

12- وأخيراً، إن التجربة المرة التي تمر بها الأقطار العربية كلها، رغم التفاوت النسبي الضئيل فيما بينها، سواء في حياتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو التربوية أو السياسية أو سواها، لا بد أن تكون محملة بالوعود، ولا بد أن تولد نقيضها من داخلها، لا سيما أن الواقع العربي المتردي القائم يرفضه ويلفظه أبناء الأمة العربية جميعهم، سواء كانوا حكاماً أو محكومين. ومع ذلك فالخروج من المأزق الذي أوصلتنا إليه حال التجزئة والتشتت والتنافر، ليس بالأمر اليسير، لا سيما على المدى القريب. فالمستقبل العربي القريب غداً مرتهناً إلى حد كبير، في شتى الميادين، بسبب السياسات التي تبعت في العقود الأخيرة، كما تشير الاسقاطات المختلفة، من اقتصادية واجتماعية وتربوية وسواها. والبلاد العربية في حاجة إلى بذل الجهد أضعافاً مضاعفة إذا هي أرادت أن تحدث تغييراً ذا شأن في النتائج التي يفرزها امتداد السياسات الماضية في شتى الميادين. وتحويل الانحدار القومي، وبوجه خاص ذلك الانحدار الذي عرفته العقود الأخيرة، بحيث يبدأ في السير صعداً في الاتجاه المعاكس، يحتاج إلى جهد هائل من التوعية الفكرية والسياسية ومن النضال العملي المنظم. غير أن المهمة ممكنة، والمنعطف آتِ، ما في ذلك شك، ما دامت الأمة العربية رافضة لمصيرها الحالي، بمنطق القلب والعقل والمصلحة والأمن والطموح القومي، شريطة أن يخدم رفضها هذا فكر سياسي قومي عميق واع يولد نضالاً شعبياً مدركاً لأهدافه مؤمناً بها. وهذا كله يستلزم، كما قلنا ونقول، تحرير الفكر العربي من عقاله، وتحرير الجماهير العربية من القيود التي ترزح تحتها، وشق الطريق واسعاً أمام الديمقراطية الولود والحرية الخصيب.‏

من الغريب والمؤسف حقا أن يكون المؤتمر القومي العربي ينعقد ولا نكاد نسمع عنه شيئا إلا ما تتناقله بعض وسائل الإعلام المختلفة المشارب. فالحاصل أن مثل هذه المؤتمرات يجب أن تنال حقها من الإعلام والتعريف بها خاصة على المستوى الشعبي في كل أقطار العالم العربي عامة. لكن الواقع يفند هذه المزاعم ويجعلها في طي النسيان. ولسنا هنا نبارك قرارات هذا المؤتمر أو نساند ونوافق كل الأقطاب المشاركة فيه، ولكننا برؤية شفافة نطالب بتوضيح الأمر ، وجعل مسألة الانعقاد وأسبابه وأطرافه في متناول معرفة الجميع، حتى تكون الرؤية شاملة وواضحة العيان.

إن مسألة وجود مؤتمر قومي للعرب، ومسألة قدرته على البقاء في ظل الضغوطات والسياسات الممنهجة التي حيكت وتحاك ضد أي اتحاد قومي للعرب منذ عقود عديدة خلت لهي شيء إيجابي يتطلب الوقوف عنده لحظات طويلة لنقده ، وبحث أسرار هذا البقاء المستحيل ، وإنه لشيء عظيم أن يكون هناك مؤتمر يجمع أغلب الحساسيات العربية بين أردافه رغم الاختلافات والخلافات بين العديد من أقطاب هذا المؤتمر ، وبالتالي فإننا جد متفائلين بكل العمل الذي يدفع نحو وحدة عربية تحت مقومات سياسية واقتصادية ومن هنا ندافع عن توجهنا الذي يدفع باستحضار المقومات السياسية والاقتصادية دون العاطفية والولائية التي قضت على أغلب المبادرات القومية التي تبناها زعماء ومفكرون ونخب عربية من قبل.

إن الوحدة العربية التي تدعو إلى الانضمام في كيان واحد على أساس عاطفي وولائي لا يمكنها أن تجد طريقها نحو التحقق في ظل التطورات الداخلية في كل قطر عربي على حدة، وفي ظل الأحداث الخارجية وخاصة منها القطرية ، فإسرائيل مثلا ، الدولة الكيان المزروع وسط المنطقة العربية والتي تشطر العالم العربي إلى شطرين تمكنت بطريقة أو بأخرى وبمساندة من بعض القوى الفاعلة والمؤثرة في العالم من خلخلة كل نظام عربي تمكن من الانفلات من الضغط الإمبريالي والصهيوني. تارة بتأليب العالم ضده كما حدث لليبيا والعراق وسوريا ولبنان … وتارة بالمواجهة الثنائية معه عسكريا أو سياسيا كما حصل مع سوريا ومصر ولبنان أيضا، ومن هنا يمكننا أن نستنتج استنتاجا واضحا، وهو يتجلى في مقدرة الدول العربية على بناء تكتل اقتصادي وسياسي يواجه أعتد التكتلات التي تقوم في العالم بين الفينة والأخرى.

وقد أثارتني مقولة لأحد رؤساء الدول الأمريكية الجنوبية في إبان تأسيس مشروعهم الوحدوي بزعامة كوبا وفنزويلا والشيلي … وهو يطالب العرب وخاصة ، قادتهم ببذل الجهد للدخول في غمار تجربة الوحدة ، ولكن هؤلاء الآخرين تجاهلوا كل نصيحة كيفما كانت نوعها وكيفما كان الناطق بها.

لقد سبق التأكيد في مقام سابق على الأهمية الحاسمة لكل تجمع يجمع كل الأقطاب والتوجهات العربية المكونة للنسيج الاقتصادي والسياسي والثقافي العربي، في نجاح انطلاقة الوحدة العربية وتواصلها. ولكن المطروح في هذه اللحظة بالذات هو التفعيل البطيء والضعيف في هذه الانطلاقة، إضافة إلى الخوف الواضح الذي يلتحف به أغلبية العرب بكل نخبهم، من فشل أي مشروع وحدوي انطلاقا من مسلمة الفشل الذريع الذي لحق مبادرات عربية سابقة في التاريخ ، والتي كانت كل البوادر الأولية تدل على نجاحها، لكن وقع ما لم يكن في الحسبان ، فانتهت كل هذه المبادرات إلى الفناء في فترة قصيرة لم تخطر على بال أحد ، وهذا ما يؤكد الخوف البين لدى البعض من الفشل المحتوم.

أسباب الفشل العربي :
لا يمكننا أن نحدد في عجالة ، كل الأسباب التي أدت إلى فشل
المشروع القومي العربي منذ أول انطلاقة عرفها ، والتي بدأت بتأسيس حزب البعث العربي السوري من طرف ميشيل عفلق السياسي الكبير الذي أبان في نفس الفترة عن حنكة سياسية رائدة مازال الكثير من مفكرينا وباحثينا العرب يستشهدون بنظرياته وكتاباته ومواقفه العظيمة .

ومن هذا المنطلق سوف نتطرق بتفصيل لكل سبب كان وراء هذا الفشل الذريع لإقامة وحدة عربية ، وترك للكثير من أعداء الأمة العربية الفرصة لكي يصولوا ويجولوا في محتويات كتاباتهم وسياساتهم لأجل السخرية ونعت العرب بكل أنواع الأوصاف القدحية والناقصة من قيمتهم ، والتي كانوا في يوم من الأيام ينعتون بأعظم وأفضل النعوت

وتتجلى أسباب الفشل العربي في تأسيس وحدة قومية فيما يلي :
أ- الانتكاسات القومية وأعظمها مثالا هزيمة 1967 العسكرية ثم
هزيمة 1973 على المستوى السياسي بعدما كانت الانتصار عسكريا واضحا، فأدت هذه الهزيمة إلى اعتراف مصر المهزومة سياسيا بدولة إسرائيل ، مما أدى إلى ارتفاع السخط العربي على المستوى الشعبي. وبالتالي دفعها -أي الشعوب العربية – إلى فقدان الثقة في أي نظرية قومية ووحدوية ، فكان التوغل العدائي سهلا في قلب الأمة العربية لضرب أي مشروع يدعو للوحدة العربية من جديد

ب- الأطماع الواضحة لبعض الدول العظمى وخاصة الدول الرأسمالية الموالية لإسرائيل ، والتي ابتدعت نظرية تقسيم العالم ككل إلى شمال غني وقوي ومتقدم وإلى جنوب فقير ومتخلف ومريض.
ج- ظهور لغة ا لسيطرة على المجتمع الدولي باسم القوة
الاقتصادية والعسكرية التي أوضحت بجلاء فيما بعد صحة النظرية الإمبريالية التي تقوم على السيطرة على الموارد العالمية تحت غطاء الحرية والديمقراطية وما إلى هناك من هذه العبارات الفضفاضة .
د- عدم استقرار سياسي واقتصادي على مستوى الدول العربية ،
فهناك دول حباها الله بموارد طبيعية واقتصادية دون الموارد البشرية ، وهناك دول تتميز بالعكس.
هـ- التأثير السياسي والعسكري لإسرائيل على أي حركة نضال
تدعو إلى الوحدة العربية، ويعتبر تأثيرها منذ قيامها على الأرض العربية عام 1948 من العوامل الكبيرة في وقف سيرورة العمل الوحدوي العربي ، فحدود إسرائيل تقع كلها مع دول كانت سباقة إلى الحركة النضالية القومية العربية كمصر وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين ، هذه الدول التي تضم ، إلى حد الآن ، حركات فعالة مازالت تحن إلى هذا النوع من النضال، ومازالت تتبناه في مواقفها على مستوى كل مؤتمر قومي ينعقد في بلد عربي .
و- غياب استراتيجية فكرية وثقافية وإعلامية ذات مضمون واضح
ومؤثر، تنقل كل القرارات والمواقف لأطراف النضال القومي والوحدوي للشعوب العربية أولا ، ثم للشركاء ثانيا ، وللأعداء ثالثا … حتى تكون الصورة واضحة للعيان

البعد الإعلامي والثقافي في المؤثمــرات القومية :
إن معظم البلدان العربية تتميز باستقلال سياسي وإعلامي
وثقافي، وعلى الرغم من ظهور بعض أساليب التبعية السياسية والاقتصادية للقوى الإمبريالية والرأسمالية في العالم. ولكن البعد الإعلامي ، وبوضوح أكثر، المسألة الثقافية ، يبقى هذا البعد مؤشرا واضحا على أن الاندماج العربي على المستوى الثقافي والإعلامي قد حقق أهدافا لا بأس بها إذا ما قارناها مع الإعلام في دول الاتحاد الأوربي أو دول أمريكا الجنوبية أو غيرها من التكثلات المختلفة في عالم اليوم .

إن الهوية العربية هوية ثقافية تحولت إلى هوية سياسية بفعل الحركات القومية، والمقصود بهذه الهوية ، اللغة والثقافة والحضارة بعيدا عن العنصر البشري أو العرق الإنساني. لذلك من المفروض نبذ الوحدة العربية على أساس العرق أو العنصر أو الطائفة، إلا نستنتج في الأخير عنصرية تمييزية ، وهذا يعتبر بالأساس موقف الديمقراطيين الليبراليين . (نقلا عن : عزمي بشارة ، ملتقى الفكر، الأحداث المغربية ، عدد 2660). إن هذه الرؤية التي أتى بها عزمي بشارة تؤكد على تأثير الثقافة واللغة والحضارة في مسألة الوحدة العربية، وبالتالي توحيد كل الدول التي تنتمي إلى هذا الأساس وتؤمن به، بعيدا عن بعض التوجهات والأفكار التي تدعو إلى إخراج الأقليات ومحاربتها باسم اختلافها لغويا ودينيا.

وعلى هذا الأساس يأتي الحديث عن استحضار البعد الثقافي في مسألة الوحدة العربية وتبويئه المكان اللائق به، فبغياب الثقافة والحضارة في هذه المسألة قد يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها. والدليل على ذلك، ما حصل في تجربة القومية الناصرية تحت زعامة جمال عبد الناصر رحمه الله ، ففي أيامه استبعد كل ما هو ثقافي وحضاري وفكري في مسألة توحيد المشارب والنخب العربية ، وتم الاقتصار على الجانب العسكري والسياسي، وقليلا ما كان الجانب الاقتصادي حاضرا خلالها فأدى كل هذا بتجربة عبد الناصر القومية إلى الفناء والهزيمة التي صار يحكي بها الجميع ، واعتبرت المنطلق الأول لتخلف الأمة العربية وضعفها في مواجهة العالم الإمبريالي وغيره.

ومن اللافت للنظر الحديث عن الحقبة التي تلت هزيمة 1967، أي حقبة السبعينات وما تلاها، والتي كانت قد هيأت الفرصة للرأسمالية الاقتصادية للتفوق على قوى حركة الثورة العربية الراهنة ، فعملت على هدم القيم العربية لتقبل بالحلول السياسية والاقتصادية للمشاكل القائمة في الواقع على نحو يلائم الأطماع الرأسمالية والإمبريالية الغربية . (مجلة الوحدة عدد 89 -1992) . وبالتالي فمسألة الهوية الثقافية عرفت انتكاسة واضحة خلال الحقب التي تلت النكسة ، فحصل بعد ذلك ركود ثقافي قومي وحدوي على أساس الفكرية القومية والوحدوية. وتولد صراع سياسي واقتصادي تجلى في المواجهة بين القوى الرأسمالية العربية الجديدة وبين مناهضي هذه القوى من نخب مثقفة وسياسية، ففتح الآفاق أمام التوغل الإمبريالي الغربي ليلعب دوره في تحكيم الهوية الرأسمالية الاقتصادية على الهوية الثقافية والفكرية والتي تطور معها الخروج عن المشروعية القومية ، والدخول في نهج سياسة بديلة عن الوحدة العربية إلى ما يسمى بالهوية الوطنية والمحلية.

ومن هنا ، نستنتج باختصار، أن المسألة الثقافية وفي إثرها المسألة الإعلامية، قد غيبت ، ولازالت مغيبة في جل المؤتمرات القومية العربية ، والسبب راجع إلى الخوف من الأرضية الثقافية التي لا تضع حدودا أو مسلمات أو تجزيئات أمام أي فئة عربية أو أي دولة عربية تضم من بين سكانها أقليات مختلفة ثقافيا إلى موعد آخر كلما جاء وقت مؤتمر قومي عربي. ولا يمكننا أن نسجل من هذا الإجراء، إلا أن نقول بأن القضية الوحدوية لدى العرب لازالت قاصرة ودون مستوى النضوج.

إن استحضار البعد الثقافي في المؤتمر القومي السابع عشر ليس وليد صدفة محضة ، فضرورة استدعاء المثقفين والمفكرين بكل اتجاهاتهم كانت مسألة ملحة أمام منظمي المؤتمر، نظرا لظهور المد الثقافي والأدبي في الساحة العربية، ودخوله غمار النقد القومي والوحدوي ، و رؤيته للواقع العربي في ظل التشرذم والتشتت الواضحين وضوح الشمس، فكل إبداع أو مقال أو كتاب لا يكاد يخلو من إشارة إلى مسألة الوحدة العربية ، ويتطرق بإيضاح إلى التفرقة التي أصبحت ميزة العرب بامتياز. فكان لابد أن يحصل هذا الاستدعاء على نحو شامل وشاسع في الفعل الثقافي. إنه الحل الوحيد الناجم عن المشاكل والإحباطات التي عاشها المؤتمر القومي العربي. فالتاريخ الإنساني برمته تاريخ حضارة وثقافة وفكر. وفهم هذه الوضعية في كل مؤتمر قومي عربي واستحضارها ، ومن بعد ذلك ترك الفرصة للمثقفين للإدلاء بآرائهم بكل حرية ومسؤولية هو دليل على وعي نافذ بالمسألة الثقافية والإعلامية.

مرت يوم الاثنين الماضي 22 فبراير، الذكرى الـ52 على قيام أول وحدة عربية في التاريخ الحديث، وهي الوحدة المصرية- السورية، التي أسفرت عن قيام “الجمهورية العربية المتحدة”، مجسدة حلماً سكن قلوب كثيرين على امتداد الوطن العربي، يرون أن ما يجمع الأمة العربية هو أكثر مما يفرقها، وأنه من العار أن تبقى الحدود المصطنعة بين دولها قائمة.
لكن هذا الحلم سرعان ما تبخر؛ حيث لم تمر سوى 3 سنوات حتى انهارت دولة الوحدة إثر انقلاب عسكري في دمشق. ومن يومها خرجت الكثير من التجارب الوحدوية العربية، كان أكثرها يخرج إلى العلن فجأة ثم سرعان ما ينزوي دون أن يسمع المواطنون العرب عنه شيئا، فهم لم يعرفوا أسباب قيام هذا المشروع الوحدوي أو ذاك، كما لم يفهموا أسباب دفنه في مقبرة التاريخ.
فضلا عن هذا، كانت بعض التجارب الوحدوية تبعث على الدهشة، كونها تقوم بين دول لا تجمع بينها أيديولوجية سياسية أو نظام حكم متشابه، أما المضحك في الأمر فإنه بمجرد إعلان قيام تجمع إقليمي أو تجربة وحدة حتى تظهر في إحدى صحف دولة من دول هذا المشروع امرأة وقد وضعت عددا من التوائم، ودائما تطلق عليهم أسماء قادة هذه الوحدة، وبالطبع لا يعرف مصير هؤلاء التوائم بعد فشل الوحدة والخلافات التي تنشب بين القادة الذين يحملون أسماءهم.
وفي ظل اتجاه العالم إلى الكيانات الكبيرة، ما زال العالم العربي على نفس حالة التشرذم، دون بارقة أمل -إلا قليلا- في قيام كيان عربي قويّ، نعرض هنا نماذج للتجارب الوحدوية العربية، وأسباب فشل هذه التجارب، وكيفية تلافي الأخطاء في حال قيام مشروع وحدوي عربي في المستقبل.
البداية: جذور الطموح الوحدوي العربي
حين يقرأ تاريخ الوطن العربي منذ بداية العمران في ربوعه يتضح أنه كان لعناصر جغرافيته: الموقع والتضاريس والمناخ والموارد الطبيعية، دورها في التوجه الوحدوي التاريخي الغالب على تحركات قبائله وشعوبه والدول التي أقامتها هذه القبائل والشعوب، ذلك أنه لتنظيم الري في كل من وادي النيل ووادي الرافدين قامت الدولة النهرية المركزية القوية. وبسبب ندرة المطر في محيطهما وغلبة الصحراء فيه تعرضت الدولتان في مصر وبلاد الرافدين لغارات وهجرات بدوية متوالية. وفي مواجهة تدفق بشري بدوي مهدد للاستقرار والعمران اعتمدتا الهجوم وسيلة للدفاع، ونمت فيهما الطموحات الإمبراطورية. ويلاحظ انحصار تمدد وفعالية تلك الإمبراطوريات ضمن حدود الوطن العربي، سواء في تلك التي أقامتها الأسر المصرية المتوالية، أو التي تعاقب بروزها في وادي الرافدين.
ثم إن محدودية الأرض الصالحة للزراعة في بقية أنحاء الوطن العربي، وندرة الأنهار فيها، وتدني نصيبها من مياه المطر، تسببتا في أن تشكل التجارة عنصرا أساسيا في الحياة الاقتصادية لمجتمعاتها، ومصدر الدخل الأساس للسلطات القائمة فيها، وبالتالي صار تأمين طرق التجارة ووسائل النقل واستقرار الأسواق وأمانها كبير الأثر في رفاه المجتمع واستقرار السلطة، الأمر الذي عزَّز التوجه الوحدوي التاريخي لشعوب وقبائل الوطن العربي والدول التي قامت فيه.
ولقد كانت شبه الجزيرة العربية أشبه بخزان الشعوب والقبائل الذي يفيض بالهجرات بين الحين والآخر، وذلك بتأثير عامل المناخ بصورة رئيسة. واتخذت الهجرات مسارين: الأول باتجاه وادي الرافدين وبلاد الشام، والثاني عبر الساحل الشرقي للبحر الأحمر إلى مصر والسودان والشمال الإفريقي. وحمل المهاجرون الأولون معهم قرابتهم الجنسية واللغوية والقسمات الحضارية المشتركة. ولم تشكل الجماعات المهاجرة مجتمعات خاصة بها؛ حيث حطت رحالها وإنما تفاعلت على شكل واسع وعميق مع الشعوب والقبائل التي حلت بديارها.
ولقد أحدث الإسلام نقلة نوعية في توجه العرب الوحدوي بإحلاله وحدة الأمة محل التحالفات القبلية، في وجه معارضة أرستقراطية قريش وأعراب البادية. وكانت حروب الردة دفاعا عن وحدة الأمة، ومنذ فجر الإسلام حرص الفقهاء على تأكيد الالتزام بأولوية الوحدة في حياة الأمة، وأهمية السلطة المركزية، ووجوب عروبة القيادة. وذلك بالتشديد على وحدانية الإمام، وأن يكون قرشيا، في رأي جمهور الفقهاء.
واعتبر الإسلام اللغة جذر الانتماء القومي، فالرسول (ص) يقول: “ليست العربية بأحدكم من أب أو أم، وإنما العربية اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي”. كما دعم الإسلام مقومات الوجود القومي العربي: اللغة، والثقافة المشتركة، والتاريخ المشترك.
التجارب الوحدوية: من مصر وسوريا.. إلى اليمن والتجمعات الإقليمية
في 28 سبتمبر 1961 عصف بالوحدة المصرية– السورية انقلاب عسكري نفذته زمرة من الضباط السوريين، الأمر الذي صب في قناة الخطاب القُطري اللاوحدوي، الذي كان قد أذكاه احتدام الصراع حول الوحدة بين التيارين القومي والشيوعي بعيد تفجر ثورة 14 يوليو 1958 في العراق.
وشهدت سنوات ما بعد تفكك الوحدة المصرية- السورية -بحسب بدراسة لعوني فرسخ عن تجارب الوحدة بعد الانفصال بين القاهرة ودمشق- الإعلان عن مشروعات “وحدوية”؛ ففي العام 1963 انتهت المحادثات التي دارت في القاهرة بين ممثلي الأنظمة الحاكمة في مصر وسوريا والعراق إلى الإعلان عن قيام وحدة اتحادية فيما بين الدول الثلاث، وفي 17 أبريل 1971 أعلن الرؤساء: أنور السادات وحافظ الأسد ومعمر القذافي اتفاقهم على إقامة “اتحاد الجمهوريات العربية” من مصر وسوريا وليبيا. ولقي الإعلان معارضة أغلبية أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي في مصر، وعندما عرض على اللجنة المركزية للاتحاد طالبت بإجراء تعديلات عليه، ويرى الكاتب الصحافي المصري أحمد الجمال أن “الاتجاه لهذه الوحدة -من قِبَل الرئيس السادات- كان بغرض: أولاً: تأجيل معركة التحرير، ثانياً: التخلص من المجموعة الناصرية التي كانت في الحكم، ثالثاً: التمهيد نحو طريق آخر”، مشيراً إلى أنه “غاب عن القيادتين السورية والليبية طبيعة الصراع الذي كان دائراً في مصر”.
وهناك مشروع آخر في عام 1978 وهو الوحدة السورية– العراقية، ففي أواخر نوفمبر من ذلك العام عُقد اجتماع بين قيادتي حزب البعث في سوريا والعراق، برئاسة الراحلين: حافظ الأسد وأحمد حسن البكر. وبعد استعراض القيادتين التحديات التي تواجه الأمة، والمشرق العربي بصفة خاصة، جرى توقيع “اتفاق العمل القومي المشترك”. وبموجبه تقرر العمل معا في جميع الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية. وتشكلت هيئة سياسية عليا مشتركة من قيادتي القطرين لتتولى الإشراف على العلاقات بينهما. وحيث لم يكن للقوى الشعبية في القطرين، ولا حتى للمؤتمرين القطريين لحزب البعث في سوريا والعراق، دور في صدور “ميثاق العمل القومي” الذي أصدرته القيادتان، وقصر ذلك على المستوى القيادي، فقد افتقد الاتفاق الحاضنة الشعبية، إلا أنه لم يتحقق إنجاز يُذكر مما جرى الاتفاق عليه، فضلا عن أنه لم يتم عامه الأول؛ إذ انهار في أغسطس 1979 على نحو مأساوي عندما اتهمت قيادة البعث في سوريا بتدبير انقلاب ضد قيادته في العراق.
وشهدت ثمانينيات القرن الماضي بروز مشاريع تكامل إقليمية، لم يبق منها قائم ويمتلك قدرا من الفاعلية سوى “مجلس تعاون دول الخليج العربي”، الذي أعلن تأسيسه رسميا في مايو 1981، ويضم دول الخليج الست: قطر والسعودية، وعمان، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، والبحرين.
ومع حلول عام 1989 حدثت نقلة جذرية، عندما شهد النظام العربي ميلاد تجمعين عربيين جديدين في شهر فبراير هما: “مجلس التعاون العربي”، الذي ضم كلاً من مصر والعراق واليمن والأردن، و “اتحاد المغرب العربي”، الذي ضم دول شمال إفريقيا العربية باستثناء مصر. وهكذا تحولت التجمعات الفرعية من حدث منفرد في عام 1981 إلى ظاهرة في عام 1989. ولم يعد خارج نطاق هذه الظاهرة من البلدان العربية سوى سوريا ولبنان والسودان. وجنباً إلى جنب مع هذا التطور، بدأت تظهر على السطح منظومة فكرية تنظر إليه باعتباره الصيغة الملائمة الجديدة لتحقيق الوحدة العربية.
لكن مثل هذه التجمعات الوحدوية كانت تعاني مشاكل، وانتهت بالتجميد مثلما حدث لـ “المغرب العربي”، وبالفشل السريع لـ “التعاون العربي”، فهذه التجمعات، كما يلاحظ د.أحمد يوسف “لم تمثل أبداً نقلة نوعية نحو رابطة وحدوية أفضل من تلك التي توفرها جامعة الدول العربية”.
ويؤخذ على هذه التجمعات عجزها عن إحداث نقلة نوعية في العلاقات بين أعضائها. فمجلس التعاون العربي عانى بعد بدايته بقليل توتراً واضحاً في العلاقات بين أهم أركانه، أي مصر والعراق “ثم انفجر من الداخل تماماً بسبب وقوف السياستين العراقية والمصرية من أزمة الخليج 1990-1991 على طرفي نقيض”.
وفي العام التالي 1990 أُعلن عن وحدة الجنوب العربي في اليمن مع نظام اليمن الشمالي اعتبارا من مايو من ذلك العام، والتي استمرت بتوافق ملغوم وبشكوك قوية وبتفاعلات ساخنة من الفشل حتى صيف عام 1994؛ حيث اندلعت حرب دموية شرسة بين شريكي الوحدة، انتهت بانتصار الجناح الشمالي وتحول قادة اليمن الجنوبي السابقين إلى لاجئين في دول مختلفة، فتحولت تلك الوحدة منذ ذلك الحين من وجهة نظر أطراف جنوبية إلى “فعل قهر عسكري أفرغ الوحدة الحقيقية من محتواها”.
5 معضلات تعيق الوحدة العربية
وهناك 5 معضلات في طريق تحقيق هدف الوحدة العربية الشاملة، وهي:
1- أن النظام العربي نشأ في الأصل مؤسساً على واقع الدولة القطرية، وتعامل الفكر القومي مع هذه الظاهرة بمزيج من الواقعية والمثالية، فطالب “ساطع الحصري” مثلاً بأن تكون الصيغة الاتحادية الفيدرالية هي الصيغة المنشودة للوحدة العربية. غير أن الوحدويين العرب فاتهم أن الانتقال إلى الحالة الوحدوية لا يمكن أن يتم قبل بناء الدولة القطرية على قاعدة مؤسسية سليمة، ولابد من إقناع الأقليات بأن مشكلاتها يمكن أن تُحل في الإطار العربي الأوسع، ثم كيف يمكن أن يتمتع قرار الوحدة بشرعية حقيقية إذا لم يكن مؤسساً على آليات ديمقراطية في الدولة القُطرية؟
2- معضلة المؤسسية، إذ إن عملية التطور الوحدوي في العالم العربي، تعلقت بإرادة الحكام وليس بقرار المؤسسات. ولعل أحد الفروق الرئيسة بين تجربة الاتحاد الأوروبي والمحاولات العربية للوحدة أن “المؤسسة” كانت هي راعية التجربة الأولى بينما كان الأفراد هم الرعاة في المحاولات العربية.
3- غياب التوازن، إذ تقوم كل التجارب الوحدوية في العالم عادة بين أطراف غير متكافئة من حيث المساحة أو عدد السكان أو الثروة الاقتصادية أو القوة العسكرية، ويلاحظ أن الفكر القومي لم يهتم بهذه المعضلة، ولم ينظر بجدية للحل الفيدرالي.
4- خلافات الفصائل القومية، حيث دخلت هذه الظاهرة إلى حيز الواقع السياسي العربي في إطار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا.
5- المؤثرات الخارجية، حيث يسرف الفكر القومي أحياناً في رد الإخفاقات إلى العوامل الخارجية والمؤامرات الدولية. ولكن رغم معاداة البيئة الخارجية للوحدة المصرية- السورية مثلاً، فإن العوامل الأصيلة في إخفاق محاولات الوحدة العربية هي عوامل ذاتية، أي عربية.
تلافي الإخفاق: اقتلاع عوامل اليأس من نفوس الجماهير
لتلافي فشل محاولات الوحدة والاتحاد بين العرب في المستقبل، يجمع الخبراء السياسيون على أن المصلحة تستدعي من أصحاب التوجه القومي العربي تعميق وتوسيع تفاعلاتهم مع القوى ذات المصلحة في تحقق التكامل القومي والوحدة، بحيث تشكل منها الكتلة التاريخية الفعالة. وفي ضوء الواقع العربي الراهن يشكل الفلاحون والعمال والمهنيون والشباب من الجنسين القوى المؤهلة لأن تحقق الإنجاز الوحدوي المطلوب، وهذا غير مستحيل إذا جرى تفعيل المؤتمر القومي العربي بحيث يغدو القوة المحفزة للحراك الوطني في كل قطر وعلى الصعيد القومي.
ولعل أبرز وسائل النضال المتصل من أجل بناء الوحدة، اقتلاع عوامل اليأس من نفوس الجماهير العربية. ويتم ذلك بوجه خاص عن طريق التأكيد أن العمل من أجل الوحدة عملٌ طويل النفس، عملٌ يُغالب عوامل موضوعية قائمة، وأن فشل تجارب الوحدة العربية لا يعني فشل مبدأ الوحدة، بل يؤكد أهمية العمل العقلاني الطويل في سبيل التغلب على العوامل التي أدت إلى فشل التجارب السابقة، وقد تؤدي، إن استمرت، إلى فشل التجارب اللاحقة. والتاريخ لا يعرف أمة لم تواجه الفشل تلو الفشل في بناء كيانها المرجو، ولكنه يعرف أمماً كثيرة أدركت عوامل الفشل وتغلبت عليها في النهاية. وليست دروس الوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية والوحدة السلافية بل الوحدة الأميركية (الولايات المتحدة) ببعيدة عن أذهاننا. بل لعل من واجبنا أن نعي وعياً أعمق دروس قيام الكيان الإسرائيلي بعد 50 عاماً من ولادة الحركة الصهيونية على يد “هرتزل”.

  • Trackback are closed
  • التعليقات (0)
  1. اول شبكة اجتماعية سعودية للتعارف
    و التواصل

    • غير معروف
    • 13 سبتمبر، 2014

    الوحده العربيه حتى تتم يجب تؤمن للمواطن حرياته يجب تحمي ولاتهدد يجب تصون ماتبدد
    كاوحدة الإمارات العربيه المتحده كل اماره اصبحت دوله متماسكه بااعلى درجات التمايز

  2. تعتبر الوحدة العربية هاجسا يلازم كل عربي من المحيط الى الخليج وهي المخرج الوحيد لبقاء العرب كغيرهم من الامم على الاستمرارية والتقدم في كل مناحي الحياة وكسب الصراع الدائر في العالم بان البقاء للاصلح كما وكيفا والعرب تؤهلهم اساسيات غير موجودة عند الامم الاخرى اهمها اللغة والارض (الزمان والمكان) وكذلك الدين والمقومات الطبيعية .ورغم ذلك هناك صعوبات وتحديات تواجه الامة العربية وتعيق مسيرتها التقدمية منها عدم التمازج مابين العرب العاربة والمستعربة وعدم القبول من الطرفين رغم انه من الصعب تحديد ذلك لان هناك تماذج حدث في المنطقة وانصهرت الاعراق مع بعضها ،ومنها ايضا النظرة الاستعلائية للعرب من حيث اللون خاصة الاسمر والاسود لان تماذج العرب مع اللون الزنجي في افريقيا وولد عربا في الوسط مابين اللونين والفكر السائد بان السود هم عبيد ولا يمكن مساواتهم مع العرب اصحاب اللون الابيض او المائل الى الابيض وهذه من اكبر الصعوبات ،ايضا المستوى المادي بين العرب حيث ينظر الاغنياء بانه في خطر في حالة توحد دولهم الغنية مع الفقيرة ،ايضا وجود اللوبي الصهيوني الذي يعمل بكل اساليبه لمنع وحدة العرب ،هناك الكثير الذي لايمكن حصره في هذا التعليق خاصة الحلول والمقترحات والرؤى المستقبلية وسلامتكم .

  3. نيك مك

أضف تعليق